الصين بين ثورتين (2 - 2)

TT

في يوم من شهر نوفمبر 1986 كنت في زيارة للأمير بندر بن سلطان بن عبد العزيز، سفير المملكة العربية السعودية في الولايات المتحدة الأميركية (سابقا)، في مكتبه بواشنطن. رغبت، بعد انتهاء زيارتي له، في الاستئذان منه، إلا أنه رغب أيضا في استبقائي كي أحيط بأمر كان موضع سعيه واهتمامه.

بعد قليل كان الأمير بندر يجري اتصالا هاتفيا مع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، رحمه الله.

فهمت من مجمل الحديث الهاتفي أن الأمير بندر كان يسعى جاهدا للتأكيد على أهمية العلاقات السعودية - الصينية، وأنه كان يستأذن الملك فهد بأن تبادر سفارة المملكة لخطوات دبلوماسية متقدمة، في علاقاتها مع سفارة الصين الشعبية في واشنطن، تمهيدا لعلاقات أغنى دلالة بين البلدين.

لم يكن للمملكة العربية السعودية عام 1986، علاقات دبلوماسية مع الصين، أو الاتحاد السوفياتي، فقد كان عداؤها للفكر الشيوعي عداء معلنا لا يلوذ بالتستر أو الغموض. واقتضى هذا الموقف من الأنظمة الشيوعية أن لا يكون للرياض علاقة دبلوماسية مع دولة ذات نظام شيوعي.

وكان الملك فيصل بن عبد العزيز، رحمه الله، في أعوام الستينات من القرن الماضي، أشد الرجال صلابة في عدائه للأنظمة الشيوعية. كان يتنبأ بانهيار هذا الفكر المناقض لكل ما أودعه الله في الإنسان من غريزة الطموح، والكسب، والرغبة في التميز عن الآخرين، وجعل من الإنسان آلة في خدمة الدولة والنظام، فضلا عن كونه نظاما ينكر وجود الله، حارب الأديان، أغلق دور العبادة وطارد المتعبدين. على أن عداء المملكة لهذا النظام، كان، في أجلى مظاهره، في علاقاتها مع الاتحاد السوفياتي، وليس في علاقاتها مع الصين الشعبية.

كانت المملكة العربية السعودية تنظر إلى الاتحاد السوفياتي نظرة العارف بنواياه وهو يحاول بسط نفوذه السياسي والاقتصادي والعسكري في البلاد العربية، وإيجاد مراكز قوى موالية له، واعتبار القضية الفلسطينية سلاحا من أسلحته في حربه الباردة مع الولايات المتحدة الأميركية. لهذه الأسباب كانت القطيعة مع الاتحاد السوفياتي قطيعة شاملة. لا علاقات دبلوماسية، ولا علاقات تجارية، ولا سماح للسعودي بزيارة الاتحاد السوفياتي أو البلاد الدائرة في فلكه، في أوروبا الشرقية.

كان الموقف من الصين الشعبية على نحو أقل قطيعة، وأقل توترا. كانت الصين، على خلاف الاتحاد السوفياتي، منهمكة في مقتضيات البناء الداخلي، والصراعات العقائدية داخل الحزب الشيوعي، وما انتهت إليه تلك الصراعات من تفجير «الثورة الثقافية» التي أتينا عليها في المقال السابق.

***

لم يكن للصين الشعبية طموحات سياسية، في العالم العربي، على نحو ما كانت عليه الحال مع الاتحاد السوفياتي. كما أنها لم تكن تدعو للفكر الشيوعي في المنطقة العربية، بل كان سعيها قاصرا على البحث عن أسواق لصادراتها، في إطار اتفاقيات ليس فيها قيود تثقل على سيادة الآخرين.

ولم نكن نرى الوجه السياسي للصين إلا من خلال زيارات وزير خارجيتها للمنطقة، السيد شو إن لاي، واجتماعاته المتكررة بالرئيس جمال عبد الناصر وقادة العالم الثالث في إطار التكتل الآسيوي - الأفريقي، ومنظمة عدم الانحياز.

لذلك كان الحذر من هذا البلد العملاق، إزاء العالم العربي، خارج هموم واهتمامات المملكة العربية السعودية. وتأسيسا على ما سبق من اعتبارات، لم تمانع المملكة العربية السعودية، رغم غياب التمثيل الدبلوماسي بينهما، في أن يكون لرجال الأعمال السعوديين نشاط تجاري مع الصين، خلافا لما كانت عليه الحال مع الاتحاد السوفياتي.

***

توفي الرئيس ماوتسي تونغ في 9 سبتمبر (أيلول) 1976، أي بعد عشرة أعوام من تفجيره لـ«الثورة الثقافية»، وبموته فقدت الثورة وهجها، وانطفأت نارها، بل وحوكم غلاة الدعوة إليها، والتحريض عليها، وجرت تسميتهم بـ«عصابة الأربعة»، وكانت زوجة الرئيس ماوتسي تونغ رأس الحربة «في تلك العصابة»، ولم يشفع لها، عن جرائمها، أنها أرملة الرئيس.

كان الصينيون، لقسوة ما عانوه من هذه المرحلة الكريهة في تاريخهم، لا سيما المثقفون منهم، مهيئين للترحيب بأي مبادرة تزيل آثار هذه اللعنة الكريهة، وهم يرون دول العالم الصناعي من حولهم، تتبارى، في سباق لا يهدأ، من أجل تحقيق الرخاء والازدهار لشعوبها. وارتفعت الأصوات تندد بالسياسات الاقتصادية الخاطئة في عهد اتسم بالتشدد العقائدي، والانغلاق على النفس، والريبة القاطعة في كل ما هو غربي، وإرباك السلم الاجتماعي العام باستعداء طبقة على طبقة أخرى.

على أن هذا التنديد لم يتجاوز حدود الرأي الغاضب لينال من مهابة الزعيم؛ فقد كان «ماو»، في عقيدة الصيني ويقينه، الزعيم الذي لا يجارى في عبقريته، وصلابته، وإنجازاته الثورية، تدين له الصين بكل ما جعل منها أمة عزيزة الجانب! ذات رأي دولي مسموع. إنه كان للبعض، «الشمس الحمراء التي لا تغيب أبدا» بلغ الانبهار به، والولاء له، حدود الهيام والتقديس. لذا كان التعريض به، بعد وفاته، يتجاوز حدود التحريم ليصبح أمرا مستنكرا لا يغتفر. ودافع المؤرخون الموالون لمسيرته، عن تحميله أخطاء للثورة، لم يكن على علم بها، وحسبت عليه.

على أن كل ذلك لا يرفع عن تركته حقيقة كونها تركة اتسمت، أيضا، بالقمع والإجهاز على الخصوم إجهازا لا يعرف الرحمة، هلكت معه الملايين.

أعقب وفاة الزعيم «ماوتسي تونغ» صراع على السلطة بين جناحين يسعى كل منهما لأن يمسك بزمام الأمور. جناح تقوده «عصابة الأربعة» قبل تحييدها، ومحاكمة أعضائها، يدعو للسير على النهج الانعزالي المتشدد للزعيم الراحل، وجناح آخر يدعو للتغيير والإصلاح الاقتصادي قاده مفكر بارز من كوادر الحزب العليا كانت له الغلبة في ذلك الصراع كي يعلن ثورة العقل على ثورة الانفعال المنفلت.

***

كان قائد الثورة الجديدة، التي غيرت وجه الصين وحررتها من سياسة الانعزال ونقلتها لعهد من الرخاء، وجعلت منها قوة اقتصادية عالمية اسمه دنغ شيوبنغ Deng Xiaoping. كان ضئيل الحجم، لا يكاد يرى منه إلا رأسه الكبير، ووجه عريض فيه عين جاحظة، وعين كسيرة، يتحدث كالهمس، ذا عزيمة أشد رسوخا من الجبال.

كان على خلاف دائم مع الرئيس ماوتسي تونغ حول السياسة الاقتصادية للبلاد. كان أحد ضحايا «الثورة الثقافية». نفي لمنطقة زراعية نائية كي يعمل في مصنع للحراثات. لوحقت عائلته بالأذى، اعتقل «الحرس الأحمر» ابنه وعذبوه وأجبروه على أن يلقي بنفسه من الدور الرابع ليتحول لمقعد طول حياته.

عادت به أقداره، ثانية، للحزب كي يساهم في صنع تاريخ بلاده. تولى حملة الإصلاح الاقتصادي من خلال رؤية للانفتاح على العالم سماها «اقتصاد السوق من رؤية اشتراكية»، وفتح الصين للاستثمارات الأجنبية، وشجع القطاع الخاص. وحرر الفلاح الصيني من نظام التعاونيات الماركسي، ومنحه أرضا يزرعها ويبيع محصولها لحسابه مطلقا بذلك الحافز الإنساني للكد والاجتهاد، بعد أن كان الفلاح يزرع أرضا ليست له. ورفع من مستوى المعيشة لمئات الملايين من الصينيين. ويعزى إليه الفضل أن جعل من الصين واحدة من أكثر اقتصاديات العالم نموا. ولم يكن يجد ضيرا في الأخذ من مزايا النظام الرأسمالي ما يعزز من فعالية الاقتصاد في بلاده. كان (براغماتيا)، يبني تقييمه على النتائج الواقعية للأمور. وينسب إليه قوله «ليس مهما أن يكون لون القط أبيض أو أسود. فهو قط جيد ما دام قادرا على اصطياد الفئران».

ولم يقتصر الانفتاح على العالم على ما هو اقتصادي، بل تجاوز ذلك لما هو حضاري ثقافي أيضا. فقد استضافت الصين خلال عامين من عهدها الجديد الألعاب الأولمبية في، بكين، والمعرض الدولي في شنغهاي.

ومدهش أن ترى الإعلانات الضوئية عن مطاعم «ماكدونالدز» ومقاهي «ستاربروك» وشراب «الكوكا» في بكين، وأن ترى في قاعات الفنادق الفخمة معارض لأحدث بضائع الترف الأوروبية والأميركية، وأن ترى سيارات «الرولز رويس» في بكين تنقل نزلاء تلك الفنادق، من وإلى المطار. وكانت هذه كلها رموزا للنظام الرأسمالي «الفاسد» التي قامت «الثورة الثقافية» من أجل التصدي له، وحماية جمهورية الصين الشعبية من شروره.

ولا أكاد أسأل واحدا من الأدلاء المرافقين عن إنجاز اقتصادي أو حضاري يستوقفني إلا وأجاب بحماس كبير: «إنه جديد لم يكن موجودا قبل عشرين عاما.. كانت هنا أرض زراعية خالية».

ويوصف دنغ شيوبنغ بأنه من أعظم رجال القرن العشرين. فقد وضع نهاية للفكر الماركسي، وفجر طاقات شعبه الذي عانى كثيرا من نهب الاستعمار الياباني والغربي لخيراته، ومما تعرض له هذا الشعب، بعد ذلك، من حروب أهلية وسياسات الفكر الماركسي «المدمرة».

في هذا العهد الجديد من الانقلاب على الفكر الماركسي، والانفتاح على العالم، وتنامي قوة الصين السياسية والاقتصادية، أبرمت المملكة العربية السعودية، استكمالا لمساعيها في الاقتراب من الصين، التي بدأتها في واشنطن عام 1986، كما أتينا عليه في مطلع هذا المقال، أبرمت المملكة العربية السعودية، في 21 يوليو (تموز) 1990، اتفاقا لتبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين، وكان اللواء توفيق علمدار، رحمه الله، أول سفير للرياض في بكين. وظلت القطيعة مع الاتحاد السوفياتي على ما هي عليه، ولم تتبادل المملكة العربية السعودية التمثيل الدبلوماسي مع موسكو إلا بعد سقوط الفكر الشيوعي وانهيار الاتحاد السوفياتي على نحو مفاجئ أذهل العالم!

ومثل أي طفرة اقتصادية سريعة مفاجئة وما تفرزه من ثراء يغري بالكسب السريع، ظهرت أعراض تثير القلق من الفساد الإداري تصدت له الدولة عبر إجراءات رادعة. ونشرت جريدة «شنغهاي ديلي» يوم 12 سبتمبر 2010 خبرا مفاده أن موظفا مكلفا بمكافحة الفساد قد ارتشى ما يعادل مليونا من الدولارات، فحوكم وأعدم.

لقد ظل إحكام السيطرة على النسل، في بلد تعداد سكانه حاليا ألف وثلاثمائة وستون مليونا، سياسة لم يختلف بشأنها المتطرفون أو المعتدلون. وتكاد تشكل هاجسا يثقل على الدولة في كل ما تعد له من خطط تنموية للبلاد. ويقول مرافقي شوان لي إن الدولة تحاول الموازنة بين أعداد المتوفين وأعداد المواليد الجدد، وقد تجاوز عام 2008 أعداد المواليد أعداد المتوفين بسبعة ملايين وثمانمائة ألف مولود. لذلك كانت سياسة الطفل الواحد، قانونا صارما لا يمكن الالتفاف عليه. ولم أر خلال ترددي على الأماكن العامة أسرة صينية يرافقها أكثر من طفل واحد.

* وزيـر الإعلام ووزير الصحة السعودي الأسبق والأمين العام السابق لمجلس التعاون

لدول الخليج العربية.