درس من قناة «الجزيرة»

TT

قدمت وثائق حرب العراق التي كشفها موقع «ويكيليكس» السبت الماضي نموذجا لعالم الإعلام الجديد المتغير يوميا الذي نعيشه الآن، وأثبتت أنه ليس صحيحا ما يقال عن أن الأنواع الجديدة من وسائل الإعلام قد تلغي وسائل أخرى أقدم.

السبق كان للموقع الإلكتروني الذي تمكن من الحصول على 400 ألف وثيقة سرية بضربة زر بفضل الفضاء الإنترنتي، ولولا ذلك لاحتاج إلى أسطول شاحنات وجيش من العاملين ومستودعات ضخمة وشهور طويلة لنقل هذه الوثائق لو كانت ورقية.

وقدمت الثورة الثانية التي أحدثها موقع «ويكيليكس» المتخصص في تسريب الوثائق السرية عندما نشر تقريبا 400 ألف وثيقة عن حرب العراق بعد الضجة الأولى عن وثائق حرب أفغانستان نموذجا على شكل الإعلام الجديد، وتوزيع الأدوار على مسارحه المختلفة.

فالوثائق مادة خام هائلة من المعلومات، والفضاء الإنترنتي له حدوده رغم اتساعه، ولا يستطيع الموقع الإلكتروني التعامل معها تحليلا وقراءة لوحده، كما لا يمكن لأي مؤسسة صحافية أو وسيلة إعلامية أن تتعامل مع مادة خام بهذا الحجم الهائل في ساعات حتى لو استعانت بجيش من الباحثين والمحللين، لذلك كان لا بد أن يحدث تحالف مع صحف وتلفزيونات على امتداد العالم وفر «ويكيليكس»، الساعي إلى أكبر تأثير وضجة، الوثائق بشكل مسبق لها ليكون عندها الوقت الكافي للاطلاع عليها واستخلاص أهم ما فيها والخروج منها بما يفيد المتلقي. وكما يحدث عادة في مثل هذه الحالات لا بد أن يكون هناك اتفاق على توقيت معين للنشر من قبل المؤسسات المشتركة في هذا الاتفاق.

من منطقة الشرق الأوسط كانت قناة «الجزيرة» في الدوحة هي المؤسسة الوحيدة التي أتيح لها الاطلاع على هذه الوثائق بشكل مسبق، وسجلت سبقا صحافيا بأنها كانت أول من بث مقتطفات من وثائق حرب العراق ليلة الجمعة قبل أن يبدأ موقع «ويكيليكس» إنزال الوثائق في اليوم التالي بعد مؤتمر صحافي لمؤسسه.

إلا أن القنوات التلفزيونية - رغم تمتعها بميزة الصورة المتحركة على الصحافة الورقية - لها حدود قوة، وما حدث شاهد على ذلك، إذ لم يكن أمام «الجزيرة» أمام هذا الكم الهائل من الوثائق سوى أن تصدر بيانا صحافيا تضعه على موقعها من نحو 400 أو 500 كلمة يتضمن رؤوس عناوين وخلاصة مكثفة جدا لأهم ما في الوثائق، ثم تقدم برنامجا حواريا تلفزيونيا لمدة ساعة تقريبا لضيوف يعلقون على ما ورد في الخلاصة، والمرجح أنهم لم يطلعوا مسبقا على الوثائق.

وما فعلته «الجزيرة» هو ما ستفعله أي قناة تلفزيونية في مثل هذه الحالات، فهذه هي حدود الشاشة فضائية كانت أو أرضية، ولا يمكنها حتى لو كانت الوثائق كلها جاهزة ومحللة ومقروءة أن تضع مذيعا يقرؤها لساعات على الشاشة وإلا لأصيب المشاهدون بالضجر والنعاس.

في صباح اليوم التالي جاء دور الصحافة الورقية لتثبت أنها المسرح الحقيقي القادر على نشر وثائق ومعلومات بهذا الحجم، وأفردت الصحف المشتركة في الاتفاق مثل «نيويورك تايمز» و«الغارديان» البريطانية وغيرها ما يشبه الملاحق الداخلية لقراءات في الوثائق وتحليلاتها بما يتجاوز عشرات الآلاف من الكلمات في طبعاتها الورقية، وملايين الكلمات على مواقعها الإنترنتية، مع ردود الفعل بالطبع بما لا تستطيع أي قناة تلفزيونية أن تقوم به.

الدرس واضح، فقد دارت العجلة من موقع إلكتروني وضع كمية هائلة من الوثائق الخام تحتاج إلى جيش من المحللين والباحثين ليدرسوها على مدار أشهر، وانتقلت إلى التلفزيون والصحف أي المؤسسات الإعلامية التقليدية التي تملك قوة النشر والوصول إلى الجمهور والإمكانات التحريرية والموارد لتوصيل الرسالة، والدرس من تجربة وثائق حرب العراق أن حدود التلفزيون هي الصورة التي تقف عاجزة في أحيان كثيرة أمام النص المكتوب، بينما «الورقي» كان المسرح الحقيقي لها.