قرن استقلالي فرح

TT

التقيت النقيب زهير عسيران في حفل خطابي قبل عشر سنين في بلدة دوما، وقال لي، وهو يطلق ضحكته الأوبرالية: 86 عاما وما زلت مثل الحديد. والتقيته منذ عام في حفل استقبال السفارة السعودية وقال لي، وهو يزلزل القاعة بضحكته: 96 عاما وأنا كما ترى. بمبا (قنبلة). وكنا نتمنى للنقيب عقدا آخر، فهو آخر نماذج جيل استقلالي دستوري وطني وحدوي (بمعنى الوحدة الداخلية أولا).

كان زهير عسيران من رفاق بعض أرفع اللبنانيين: رياض الصلح، الذي للأسف لم نعرفه، وتقي الدين الصلح، المفكر والألمعي والمستقل، وكان صديقا توأما للاستقلالي علي بزي، أحد وجوه الحكمة والطيبة والاجتهاد، كما كان من رفاق الإمام موسى الصدر ودعوته، ومن بعده من رفاق السيد محمد حسين فضل الله وأصدقائه.

ذهبوا جميعا وبقي هو شاهدا على مراحل النفوس الطيبة ورجال الألفة الوطنية. وأفضلها على كلمة «وحدة» لكثرة ما أهينت وما أذلت وما تلفظ بها الكذبة والمرجفون. لقد انطفأ زهير عسيران انطفاء وهو يكاد يستكمل القرن. وهو قرن أمضاه في حيوية مثيرة، متنقلا، كمراسل لـ«المصري»، بين أهم الأحداث والمؤتمرات والمعاهدات. ولم يتوان عام 1949 في استئجار طائرة خاصة لملاحقة انقلاب في اليمن. ولما حطت به طائرة «الداكوتا» تنبه إلى احتمال أن يكون الانقلاب قد فشل، فتحسس عنقه. وعندما سأله مستقبلوه ماذا جاء يفعل، قال، مستخدما ضحكته الزلزالية: «ولو؟ جايين نهنئكم».

مثل رفاقه في صحافة المرحلة، سعيد فريحة وعفيف الطيبي وإسكندر الرياشي وسواهم، عاش زهير عسيران يجني ألفا ويصرف عشرة آلاف ويوزع عشرين ألفا. لذلك لم يكن وحده مدينا على الدوام بل أيضا جريدته «الهدف» التي انتهى به الأمر أن باعها إلى الجبهة الشعبية والراحل غسان كنفاني.

فقد ثروته وصحيفته وحافظ على ضحكته في وجه الحياة ومتاعبها. وفي سنواته الأخيرة لم يعد يكتب شيئا إلا في رثاء رفاقه وأصدقائه الذين يغيبون. وبقي قريبا من نقابة الصحافة كأنه لم يغادرها. كما ظل حاضرا في جميع مناسبات بيروت الكبرى، بظرفه وحيويته. وكانت رفقته مبهجة، خصوصا إذا التقى مجموعة سيدات في مكان عام أو في مصعد، فعلى الفور يستعيد شبابه ويعيد إليهن ما كان ومضى، في السنوات الخوالي، مازجا جرأته بغلاف من التهذيب ثم مستخدما سلاحه الأمضى: الضحكة الزلزالية، التي تبعث من حولها عدوى الضحك والفرح.