بل أميركا لا تريد أن تفهم

TT

على أثر اعتراف الرئيس الأفغاني حميد كرزاي بتلقي إدارته «أكياسا من النقود» الإيرانية علقت مصادر أميركية بأن هذا التصرف يعتبر «لغزا» لا بد من التحقيق فيه. واللغز الحقيقي هو الاستغراب الأميركي، وليس التصرف الأفغاني، أو الإيراني، فواشنطن، بكافة نخبها، تبدو غير قادرة على استيعاب تركيبة الصراع، وطبيعته، في كل من أفغانستان، والعراق، وحتى لبنان، كما أنها، أي واشنطن، غير قادرة على فهم طبيعة المحيط الجغرافي لتلك الدول، وكيف أن أحد أهم عوامل تأجيج الصراع فيها هو العنصر الخارجي.

إشكالية واشنطن، ونخبها، أنهم ينظرون للعالم من منظار التجربة الأميركية، وهي بكل بساطة: أن كل دولة، مثل أميركا، تقع فيها حرب أهلية، فإنها ستتجاوزها من خلال النضج، على اعتبار أن الدول مثل الأفراد تتعلم من تجاربها، وتصبح دولا رشيدة، أي أن تاريخا من الحروب والدم كفيل بإشعال جذوة العقل. لكن ذلك غير صحيح في جل محيطنا العربي، والإسلامي. فالجيران ليسوا أوروبا، أو اليابان اليوم، أو كوريا الجنوبية.

فأميركا يفصلها المحيط عن العالم الخارجي، المؤثر، بل وشكل لها المحيط عامل حماية من التدخل الأجنبي المستمر، لفترات طويلة من الزمن حتى حادثة «بيرل هاربر» الشهيرة. لكن ظلت أميركا بعيدة عن التأثير الخارجي المباشر، والمستمر، حتى جاءت أحداث 11 سبتمبر (أيلول) الإرهابية، أي أن أميركا تتأثر بشكل منقطع. بينما في الحالة العراقية، أو الأفغانية، أو اللبنانية، فإن تأثير المحيط الخارجي مستمر ولم ينقطع، سواء تاريخيا، أو حديثا، وما يجمع لبنان بأفغانستان والعراق هو كثرة الحروب في تاريخها الحديث، وكثرة التوغل الخارجي فيها.

فإذا كان الحاكم المكسيكي بورفيريو دياز قد قال يوما: «مسكينة المكسيك بعيدة عن الله وقريبة من أميركا»، فماذا عساهم يقولون في العراق وأفغانستان ولبنان، حيث إنهم قريبون من إيران وبعيدون عن السلم والاستقرار؟ فها هي بعض الأحزاب الرئيسية في العراق تتلقى الدعم المالي والمسلح من إيران، وها هو حزب الله يفاخر علنا بفضيلة المال الإيراني الطاهر، وها هو كرزاي يعترف بتلقي «أكياس من النقود». فالكل يفعلها على عينك يا تاجر. ورغم كل ذلك فلا تزال واشنطن، ونخبها، يتعاطون مع مناطق الصراع تلك بعقلية الديمقراطية، والشفافية. وهما أمران بعيدان، فتلك دول لم تعرف الاستقرار، ودول ينخرها البعد الطائفي والقبلي، ومن هناك تنفذ إليهم إيران، بالمال والسلاح. وفي حالة لبنان، فإن الأمر يزداد سوءا بوجود إسرائيل وجرائمها، وغياب الحل السلمي الذي من شأنه نزع فتيل انفجار كبير، ومتجدد.

وبالتالي، فإن الأميركيين لا يريدون أن يفهموا أن تلك الدول، وتحديدا العراق وأفغانستان، بحاجة لحكومة مركزية قوية، وعاقلة، توقف التدخل الخارجي، والاستنزاف الداخلي، وترعى التقدم الطبيعي لها، وإن كان بطيئا. وذلك أفضل من الصراع المرير المستمر، ويكفي أن تتأمل واشنطن تجربة الجيش التركي ودوره في حماية تركيا التي نراها اليوم، اقتصاديا، وسياسيا، وخلافه، خصوصا إذا ما تذكر الأميركيون كارثة حل الجيش العراقي، وما ترتب عليها.

والمراد قوله إن العالم ليس أميركا، كما أنه لا يوجد في السياسة وصفة واحدة لكل المشكلات.

[email protected]