هياكل «كرتونية».. أم «حديدية»؟!

TT

أثارت تصريحات رئيس الوزراء السوري، ناجي العطري، حفيظة بعض السياسيين في لبنان حينما قال بأن سورية «لا تنظر إلى 14، و15، و16 آذار، فهذه الهياكل كرتونية». طبعا، الذين غضبوا من التصريح هم أولئك الذين ما زالوا يتوهمون وجود تيار باسم «14 آذار» قائم حتى الآن في لبنان. إذ هناك فرق بين بقاء التسمية والشعار لتيار مؤقت فرضته ظروف دولية قبل خمسة أعوام، وبين كونه قوة فعلية في الشارع الانتخابي والسياسي.

ناجي العطري محق، فهذه الهياكل أو الكيانات «كرتونية» معدة للمناسبات، ولكنها غير قابلة للبقاء لأنها لا تملك مقومات شرعية للبقاء في بيئة غير شرعية. فلأجل أن تبقى الأحزاب، أو الكيانات في منطقة مثل الشرق الأوسط لا بد أن تكون هياكلها حديدية صلبة غير قابلة للطرق أو التعديل. ولعلنا نضيف هنا، أن بعض الدول أيضا في هذه البقعة من العالم هي أيضا دول «كرتونية» لا تملك مقومات الحياة، وهي كيانات تشبه الدولة في بعض مظاهرها ووظائفها، ولكنها تفتقر إلى الشرعية الحاكمة؛ ليس لأنها لا تملك واحدة، بل لأن المحكومين لا يرضون بها. لبنان، نموذج لأزمة الدولة في منطقة الشرق الأوسط. فهذا الكيان الذي كان مصدرا للحداثة في العالم العربي خلال عشرينات القرن الماضي، بات دولة عاجزة لا تملك فيها السلطة التنفيذية ولا القضائية ولا التشريعية الاستقلالية. ليس هذا فحسب، بل إن سلطة الدولة ومؤسساتها غير ملزمة إلى الحد الذي لا تملك معه فرض الأمن أو القانون، ولعل الجميع شاهد كيف استطاع جنرال - متهم سابق - تهديد رئيس الحكومة بأنه سيأخذ حقه بيده من دون أن يستطيع أحد مساءلته لأنه تحت حماية حزب الله.

منذ بداية الحرب الأهلية (1975) ولبنان غير قادر على التصرف كدولة كاملة السيادة. هناك أسباب موضوعية لهذا الخلل، مثل التدخل السوري، والغزو الإسرائيلي، ووقوع لبنان تحت طائلة الحماية الفرنسية والأميركية والأممية في أكثر من مرحلة. لكن من الثابت أن هذا البلد يعاني من عدم انسجام بين مكوناته الشعبية من جهة، وعدم قدرة الدولة على إقناع مواطنيها بأن شرعيتها تفوق شرعيات طوائفها وإثنياتها من جهة أخرى.

الأزمة ليست أزمة لبنان وحده، فعدد من الدول، أبرزها العراق والسودان، هي في حالة موت سريري للسلطة المركزية، بحيث إن شرعية الدولة قد وصلت لحد متدن من التوافق الاجتماعي يهدد بالانقسام. هذا لا يعني أن بقية دول المنطقة بحال أفضل، ولكنها لم تصل بعد إلى نقطة اللاعودة التي تعاني منها هذه الدول. أزمة دول المنطقة هي أنها ورثت نظام الدولة «الويستفالية» (العلمانية) من الحكم الاستعماري، وتأثرت على السطح بالحداثة الغربية من دون أن يمس ذلك الهويات التقليدية. ولهذا أصبحت هذه المجتمعات في حالة من العداء مع نفسها، ومع الحداثة الغربية التي تصبغ حياتها السياسية والاقتصادية.

لقد قيل قديما بأن الاستعمار قد تسبب - عن عمد - في تقسيم العالمين العربي والإسلامي، ولكن الحقيقة الماثلة بين أيدينا اليوم هي أن الدول التي رسم الاستعمار حدودها قبل ثمانين عاما ليست بصدد الاتحاد مع بعضها البعض، بل بصدد التقسيم والتجزئة. أو كما يشير حازم صاغيّة في مقالة سابقة له: «إن الاستعمار مسؤول إلى حد بعيد عما وصلنا إليه، ليس لأنه (جزّأ) المنطقة، بحسب قول خشبي لا تتوقف عن ترداده الأدبيات القومية، بل لأنه وحّدها أكثر مما تحتمل جماعاتها وثقافاتها البدائية». ولهذا، فإن المنطق «الويستفالي» الذي أسس لقيام الدولة الوطنية بعد سقوط الاستعمار العثماني والأوروبي، لم يزل محل هجوم ومصادمة منذ بداية تكوين الأحزاب القومية التي لا تؤمن بالوطنية، مرورا بالتيارات الإسلامية التي تطالب بنبذ «علمانية» الدولة «الوطنية» واستبدال الثيوقراطية الدينية بها، ووصولا إلى تنظيم القاعدة الذي يسعى لاستعادة الخلافة عن طريق إقامة إمارات إسلامية على الطريقة الطالبانية.

في إطار تحليله للدولة والسلطة، يقسم ماكس فيبر، رائد علم الاجتماع، مصادر الشرعية إلى ثلاثة: «الملهمة»، و«التقليدية»، و«القانونية». إذا ما نظرت إلى عدد من دول الشرق الأوسط لوجدت أنها إذا لم تكن تمتلك أحد هذه المصادر فإنها تعاني في عدم قدرتها على العمل كوحدة جامعة للمكونات الاجتماعية. لبنان على سبيل المثال بلد تحكمه قوى ملهمة متضادة، «الولي الفقيه» بالنسبة لحزب الله، أو زعامات تقليدية متنافسة لكل طائفة مثل «الدروز»، أو «السنة»، أو «الموارنة». أما السلطة «القانونية» فتأتي في آخر المطاف، بوصفها مؤسسة غير ملزمة.

الجدل حول «المحكمة الدولية» مثير للاهتمام لأنه يتعلق بهذا المصدر الأخير للشرعية، الذي يوشك على السقوط النهائي. ما يريده بعض الساسة في لبنان هو تنفيذ الرغبة السورية - الإيرانية بأن تتخذ المؤسسة القانونية موقفا مضادا للمحكمة الدولية تحت ذريعة أن «الاستقرار مقدم على العدالة». في معرض رده على سؤال عن موقفه من قضية «المحكمة الدولية»، قال النائب وليد جنبلاط بأن «العدالة مرهونة بالاستقرار». ولكن من قال إن في لبنان استقرارا يمكن تحقيقه عبر تعطيل «المحكمة الدولية»، لأن الدولة منذ الحرب الأهلية وهي في استقرار مؤقت وظرفي.

لا بد من الاعتراف بأن بعض الدول التي نجحت في تقوية سلطة الدولة داخليا وخارجيا لم تنجح في ذلك عبر تحقيق التوافق الداخلي وسيادة الدستور، بل لأنها فرضت شرعيتها بالقوة العنيفة، أي عبر «هياكل حديدية»، وأنه من دون ذلك لم تكن تلك الأنظمة قادرة على تحقيق شرعية الدولة، وفرض سلطتها على مواطنيها. نظام «البعث» في العراق كان ممسكا بالدولة عبر قبضة «حديدية»، ولهذا أمكن له حكم الطوائف والإثنيات غير المتجانسة. وحين انهار بعد الغزو الأميركي تعذر على الدولة في العراق فرض سلطتها لأنها لا تملك الشرعية الكافية لتحقيق التوافق، ولأن الأميركيين أرغموا العراق على استخدام صندوق الاقتراع بل دبابة الانقلاب، ولهذا كانت النتيجة «كرتونية».