الفرنسيون يتظاهرون

TT

وصلت إلى باريس أول مرة تسبقني أحلام ابن عشرين عاما. ولم يكن مهما أمر الطائرة العتيقة ذات الأربعة محركات والحقيبة الجلدية الرخيصة من محلة «السور»، التي لم تعد موجودة في بيروت الحديثة. العشرون تلغي أهميات الأشياء. لكن باريس كانت، بكل جمالها وروعتها ومبانيها الساحرة وأريجها الغامض، تقف على حافة الحرب الأهلية، وكان الفرنسيون على وشك النزول إلى الشوارع، ليواجه بعضهم بعضا.

وفي مايو (أيار) 1968، في السابعة والعشرين من العمر، وصلت إلى باريس من جنيف ومعي هذه المرة حقيبة «سامسونايت» جديدة. وكان الجو ربيعيا، وأضواء باريس ماضية في سحر النفوس. وهذه المرة ترافقني، لا تسبقني، أحلامي.. وإذا بباريس تقف على حافة الحرب الأهلية. وأفقت صباح اليوم التالي فإذا هي تحترق. المدينة التي رفض مندوب الاحتلال النازي أن يشعل في جمالها عود ثقاب واحدا، كان شباب فرنسا يقلعون بلاطها ويكسرون أشجار ربيعها ويحولون أرصفتها إلى حجارة مبعثرة. وكان الفرنسيون يهتفون ضد أفضل رئيس لهم في تاريخهم، ماضيا وآتيا.

منذ أسابيع والفرنسيون يتظاهرون في شوارع المدن ضد رفع سن التقاعد من 60 إلى 62. على بعد ساعة منهم اتخذت حكومة بريطانيا إجراءات تقشف قاسية ولم يتحرك أحد. وفي برلين زمّت المستشارة ميركل المصروفات كما تزم شفتيها، ولم يعترض الألمان حتى في الصحف. نزل الفرنسيون إلى الشوارع ولم يعودوا بعد، ليس في باريس وحدها؛ بل في كل المدن الكبرى. واليونانيون أيضا لا يزالون في الشوارع، يهتفون ضد حكومتهم.

كم هو سهل دعوة الفرنسيين إلى الشارع. ليس أسهل منها سوى دعوة الألمان إلى الحرب أو دعوة الإسبان إلى الرقص. والأميركيون ينزلون إلى الشارع بعشرات الآلاف للاعتراض على سياسة إدارتهم في فيتنام وكمبوديا. والياباني يتظاهر ضد البطالة مطالبا بالعمل. ولله في خلقه شؤون.

لكن هذه العلاقة التاريخية بين الفرنسي والتظاهر، حالة مرضية لا شفاء منها. لم يجرؤ أحد على أن يبلغ هذا الشعب أن الثورة الفرنسية قد انتهت منذ أكثر من قرنين. ولعل المسيو ساركوزي هو أول المفاجئين.. لم يستطع أن يحقق شيئا من سياساته الإصلاحية التي وعد بها. ولا استطاع أن يصبح «ثاتشر» فرنسا، كما تكهن كثيرون. وليس تمديد سن التقاعد سوى عنصر بسيط جدا في إجراءات خفض المصروفات الحكومية. ومع ذلك لا يريده الفرنسيون أن يمس شيئا. وربما تأخر الرجل قليلا. لقد أضاع السنوات الثلاث الأولى في فصول الطلاق والزواج وقصص الحب.