لعنة النفط

TT

سمعنا الكثير عن لعنة النفط، بيد أنني لم أجد بلدا نفطيا عانى من هذه اللعنة كالعراق. معظم البلدان العربية استثمرت الكثير من عوائدها في التنمية والنهوض والترفيه عن شعبها وتوظيف أموالها في الداخل والخارج وتقديم المساعدات للدول الشقيقة وتشجيع الفكر والعلوم والثقافة. نعم، ضاع الكثير، ولكن استفادوا أيضا من الكثير. وكما قلت، انطبق ذلك على بعض الدول النفطية العربية والإسلامية، بما فيها العراق في العهد الملكي. ولكن منذ تسلم البعث الحكم تحول النفط إلى نقمة ولعنة.

هذا ما أفاد به سعد عبد الرزاق حسين في محاضرته التي ألقاها في «مؤسسة الحوار الإنساني» بلندن. قال إن تدفق عوائد النفط جعل المواطن يعتبر الدولة مسؤولة عن إعاشته وتزويده بكل شيء. فقد العزيمة على العمل والمبادرة. ولِم لا وهو يرى الآخرين ينهبون الملايين؟

ذكرتني كلمات الدكتور سعد ببعض مآثر أيام الخير عندما لم تكن بيد الدولة واردات النفط. سكان مدينة السماوة قوم حريصون على التعلم، وبرز منهم أعلام في تاريخ الأدب والفكر العراقي المعاصر. لم تكن في المدينة أي مدرسة ثانوية، واعتذرت الحكومة عن توفيرها لضيق ذات اليد. اضطر السكان إلى إرسال أولادهم بعيدا إلى بغداد وتحمّل كلفة سفرهم ومعيشتهم ودراستهم. أُسقط في أيدي القوم، فظهر بينهم الحاج عباس الحذاف، صاحب علوة السماوة (مخزن ومزاد المحاصيل الزراعية)، فجمع أعيان المدينة وخطب فيهم: لماذا ننتظر من الحكومة أن تفعل كل شيء؟ لماذا لا نبادر بأنفسنا ونحقق ما نريد؟... ودعا إلى فرض إتاوة بمقدار درهم واحد عن كل جزة (حزمة) صوف تباع في علوته، وعشرين درهما عن كل تنكة دهن، تجمع باسم مشروع متوسطة السماوة، وتبنى المدرسة مما يتجمع فيه. صفق القوم له وبادروا بتنفيذ المشروع. وما أن جمع ما يكفي حتى باشروا ببناء مدرسة من صفين. توسلوا بمديرية معارف الديوانية فتبرعت لهم بسبورتين. بقيت مشكلة المعلّمين. تبرع طبيب القرية بتدريس العلوم والإنجليزية، وتبرع أمين صندوق البلدية بتدريس الحساب، وتبرع أحد الأدباء بتدريس العربية والتاريخ. لم يستطيعوا توفير رحلات وكراسي للصفوف فجلس الطلاب على الأرض. وبعد السنة الأولى توفر مزيد من المال لبناء غرفة ثالثة للناجحين من الصف الأول. وبعد أن سمعت الوزارة بنجاح المشروع عينت ما يلزم له من المعلّمين.

لا شك أن مبادرات مشابهة جرت في أماكن أخرى عندما لم يعرف العراق عوائد النفط فاعتمد الناس على أنفسهم، بيد أن النفط لم يقتل كليا روح المبادرة الشخصية. فمنذ نحو عشرين عاما تمتعنا في لندن بما جاد به د. محمد مكية في ديوان الكوفة. أغلق الديوان مؤخرا وذهبت أدراج الرياح كل مساعينا لحمل وزارة الثقافة على فتح مركز ثقافي مشابه، ولكن.. لقد أسمعت لو ناديت حيّا. وإذا بنا نفاجأ مؤخرا بمبادرة شخصية مشابهة قام بها السيد حسين الصدر بفتح هذا المركز المشرف «مؤسسة الحوار الإنساني» تحت شعار «نعم للثقافة وكلا للمشاحنات السياسية والدينية». فحياك الله يا سماحة الشيخ.