الإعلام الفضائي ومرحلة ما بعد الانبهار!

TT

«(الجزيرة) إلى أين؟» عنوان لتقرير قرأته في واحدة من الصحف العربية، لم يكن تقريرا بقدر ما كان مقال رأي ووجهة نظر. المهم أن التقرير يتحدث عن قناة «الجزيرة» بعد أن أصبحت، على حد قوله، تعبر عن وجهة نظر تيار واحد و«بعد أن كانت (الجزيرة) قناة جاذبة للحرفيين والمهنيين والمتميزين أصبحت قناة طاردة لهم». وذكر التقرير مجموعة أسماء أطلق عليها تسمية قائمة المغادرين لسفينة «الجزيرة»، إلى أن انتهى إلى احتمال الاستغناء عن مراسل «الجزيرة» في لبنان. وعلى الرغم من أنني لست معروفا بإعجابي بقناة «الجزيرة»، فإن لدي ملاحظات على المغادرات الصحافية لمواقعها في «الجزيرة» أو غيرها، وآخرها كانت إقالة رئيس تحرير «الدستور» المصرية إبراهيم عيسى من منصبه.

الملاحظة الأولى، هي أن قناة «الجزيرة» وبعد تجاوز عمرها ما يقرب من أربعة عشر عاما قد بلغت سن الرشد وتستطيع أن تحيا من دون مذيعين أو معدين أو مراسلين بعينهم. فهي تستطيع من خلال اسمها كعلامة تجارية أن تجذب من تريد وتطرد من لا يعجبها. إذن في هذا نوع من الثقة بالنفس لدى الفضائية الإخبارية الأقدم في العالم العربي. أما الملاحظة الثانية فهي تخص الفضائيات العربية جميعها، التي بعد انقضاء فترة انبهار العرب برؤية أنفسهم على الشاشات، لم يعد ما تقدمه «الجزيرة» أو غيرها أمرا باهرا للمشاهد العربي كما كان في السابق. لقد انفجرت فقاعة الفضائيات، وهذا ما يبرر قدرة الدولة، مثلما حدث في مصر، على أن تغلق قناة أو صحيفة من دون أن تتوقع رد فعل يذكر. الناس تجاوزت موضوع الفضائيات، التي لم تعد بالبريق الذي كانت عليه. إذن ما يحدث في قناة «الجزيرة» هو علامة نضج للقناة وللمشاهد في الوقت ذاته.

لا شر ولا خير في هذا، سوى أن قناة «الجزيرة» أسهمت في خلق فكرة السوق الإعلامي. أي إن الإعلاميين الذين غادروها سوف ينتقلون إلى قنوات أخرى. ويجب على المذيعين ومقدمي البرامج أن يدركوا أن المسألة الإعلامية زادت الأعداد فيها لتصبح جزءا من السوق؛ عرض وطلب، ولا داعي إلى ثورة أو اعتصام للإبقاء على صحافي في جريدة أو تلفزيون. المشكلة بالطبع تكمن في نوعية الصحافيين الذين ختموا بأختام المحطات التي عملوا فيها، فلم يكونوا صحافيين محترفين بقدر ما هم ملونون بلون آيديولوجي يتبع سياسة المحطة. لذا لا ينفع مذيع «الجزيرة» في «العربية» مثلا، لأن «وشه ونغمة صوته هو وش ونغمة (الجزيرة)». هذا النوع من المغادرة الجماعية التي حدثت في قناة «الجزيرة»، ينبه الإعلامي إلى أنه يجب أن لا يكون له لون، ويجب أن يكون مهنيا محترفا فقط، حتى يمكنه التنقل بين القنوات والمحطات.. وفي هذا درس للجيل الجديد من المذيعين. ومن هنا يجب تدريب المذيعين الجدد على أن يصبحوا أنفسهم، بدلا مما كان يعرف سابقا بـ«وجه القناة» التي يعمل بها.

إذن ما حدث في قناة «الجزيرة» يمكن اعتباره على المدى الطويل إسهاما إيجابيا في تطوير مهنة الصحافة التلفزيونية. بالطبع، هناك مسألة التنوع ووجود ملل ونحل في أي قناة، التي يجب الحفاظ عليها، ولكن هذه أخطاء تقع فيها كثير من المحطات، بما فيها قناة «بي بي سي» العربية، حيث تجد أن أربعة أشخاص من دولة واحدة يقدمون برنامجا واحدا من المفترض أنه موجه لجيل الشباب في كامل المنطقة العربية ويخاطب اهتماماتهم، وهذا عيب كبير في قناة تدعي أنها تخاطب كل المتحدثين بالعربية.

وأخيرا، آن للكتابة عن التلفزيون وأخبار الإعلام أن تنضج هي الأخرى، ولا تصنع «من الحبة قبة». في سوق آخذة في التشكل، سنرى كثيرا من تنقل الإعلاميين، كما سنشهد إفلاس قنوات تموت علنا في الفضاء.. كل ذلك من أمور سوق الإعلام الجديد، وهذا ليس كله سوءا بالطبع. في كل بلاد الله المذيع ينقل الخبر، ولكن في حضارتنا التي تكاد أن تعلن إفلاسها على الملأ، أصبح المذيع أو «الإعلامي» هو الخبر.