اللغة العربية والإخفاق الحداثي

TT

لست مبالغا إذا قلت إن ما يسمى بالإخفاق الحداثي العربي هو في بعد من أبعاده الأساسية إخفاق لغوي لا يقل بداهة عن إخفاق العرب السياسي والاقتصادي والعلمي، إذا ما فهمنا اللغة هنا ضمن دلالتها العامة، بأنها رؤية للعالم ونظام للفكر وأنماط للحياة. وبهذا المعنى، أن نتحدث عن خلل ما يصيب اللغة أو اللغات المستخدمة فمعناه أن نتحدث عن اضطراب نظام الفكر والصلة بالعالم، واهتزاز بنية الاجتماع السياسي برمته. والحقيقة أن المتأمل اليوم في أوضاع العرب على هذا الصعيد لا يملك إلا أن يصاب بالفزع الشديد، لشدة ما أصابهم من اضطراب الرؤية وعمى البصيرة في التعاطي مع لغتهم والعبث بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم. فليس من قبيل الادعاء أو التجني في شيء، القول هنا بأن استخفاف العرب بلغة الضاد يرتقي إلى مصاف السفه المتعمد، نظير السفه في الأموال والثمرات، ولا غرو أن أضحوا، بسبب هذا الخلل اللغوي الهائل، عالة على غيرهم في تلقي العلوم والمعارف والتقنيات وكل شيء، من دون أن يكون لهم الحد الأدنى من القدرة على حسن استهلاكها واستيعابها، فضلا عن المشاركة النشيطة فيها، وهذا هو عين الفشل الحداثي العربي بامتياز.

يكفي أن يتأمل المرء واقع انتشار المدارس والجامعات الأجنبية في الرقعة العربية بصورة فوضوية، مع ما يصحب ذلك من اعتماد شبه مطلق تقريبا على اللغات والمناهج الأجنبية، وتهميش اللغة العربية في أرضها وبين أهلها، حتى يدرك حجم الكارثة الثقافية والاجتماعية التي يسير نحوها العرب بمحض إرادتهم وتدبيرهم. فكما أن الفضاء السياسي العربي أضحى عرضة لتدخلات قوى ولاعبين كثر لا حصر لهم، فكذلك هو الأمر بالنسبة للمجال الثقافي واللغوي العربي الذي بات بدوره مسرحا مفتوحا لتنافس دول وقوى كثيرة كل يحاول أن ينال نصيبه ويعزز موقعه في هذا الفضاء المستباح. والغريب في الأمر أن مثل هذه الأمور تجري في غفلة من الساسة وقطاعات المثقفين من دون أن تثير فيهم شيئا من القلق أو حتى التساؤل أصلا عن جدوى هذه الخيارات الرعناء التي تكاد تصل حد التدمير الذاتي الممنهج.

ويؤسفني أن أقول هنا إن العرب لم يدركوا بعد أهمية اللغة وخطورتها في مجال الاجتماع السياسي ومسار الحضارات عامة، بسبب غلبة الرؤية الأداتية الضيقة التي ترى في اللغة مجرد وسيلة تعبير في أحسن الحالات وليس أكثر. لقد حباهم الله بلغة تتلهف ملايين الشعوب الإسلامية على تعلمها، وحتى التخاطب بها، في حين أنهم يتجهون إلى العزوف عن استخدام العربية حتى في أقطارهم قبل أن نتحدث هنا عن نشرها في الرقعة الإسلامية، أو ما بعدها. والحقيقة أننا لم نر أمة من الأمم تستخف بلغتها وتهون من قدرها قدر ما نراه في العالم العربي، حتى مقارنة بدول الجوار من حولنا، قبل أن أتحدث هنا عن الدول الكبرى. أنت تذهب إلى تركيا وتفاجأ كيف جعل الأتراك من التركية الحديثة التي لا يزيد عمرها على ثمانية عقود من الزمن اللغة الوحيدة تقريبا في مجال التعليم والثقافة والإدارة وكل شيء، بل تذهل حينما ترى حجم الترجمة التي يعكف الأتراك على إنجازها من كل اللغات الكبرى تقريبا. ولك أن تقول نفس الشيء عن الجار الإيراني الذي جعل من الفارسية اللغة المهيمنة في التعليم والإدارة والصناعات العسكرية والمدنية، وسائر مجالات الاستخدام الأخرى، من غير أن تنتابه عقدة نقص إزاء الآخرين. ولا أريد أن أفصل القول في التجربة الصهيونية في إحياء اللغة العبرية وجعلها لغة العلوم والثقافة والإدارة، فهي معروفة للجميع.

أنا لا أقلل من أهمية اكتساب لغات أجنبية وحذقها، فمثل هذا الأمر بات ضرورة حيوية لثراء وتجدد اللغة القومية أو اللغات القومية نفسها، والأمم التي لا تترجم وتنفتح على اللغات الأخرى تحكم على نفسها بالجمود بل ربما الموت، لكن ثمة فرقا كبيرا بين اكتساب لغات أخرى لإثراء اللغة الأم وتوسيع الآفاق الإدراكية لأهلها، وبين الزهد في اللغة الأصلية وإحلال لغات أجنبية محلها على نحو ما نراه راهنا في العالم العربي، فمثل هذا الأمر هو أشبه ما يكون بإقدام المرء على الانتحار الذاتي.

تتجه الساحة التعليمية في أغلب البلاد العربية وبصورة متزايدة نحو الانشطار بين تعليم أجنبي أو شبه أجنبي خاص، يجتذب إليه أبناء الوجهاء والطبقات الميسورة، وتعليم «وطني» أشبه ما يكون بمدارس محو الأمية، ينتشر بين أبناء الطبقات المحرومة والفقيرة. وإذا تجاوزنا قضية الهوية العامة هنا، فإن ما هو أشد خطورة ما يتولد عن ذلك من حدة استقطاب اجتماعي سياسي مصاحب لهذا الانقسام اللغوي، بين نخب محدودة لكنها ذات حظوة خاصة ترطن في الغالب بلغات أجنبية تراها عنوانا على الوجاهة والتميز، وأغلبيات شعبية يتراوح وضعها ما بين أمية، أو شبه أمية التعليم الوطني. وطبعا في مثل هذا الوضع البائس للتعليم الوطني وتهميش اللغة العربية لا أحد بمقدوره أن يلوم الناس على هجران ما يسمى - تجاوزا - بالتعليم الوطني أو الرسمي البائس. وحتى أكون صادقا مع نفسي ومع القراء فقد اخترت لابنتيّ الصغيرتين مدرسة إنجليزية خاصة مطعمة بشيء من العربية، وقد حاولت أن أستعيض عن قلة ساعات العربية بأن جعلت البيت حاضنا للعربية الفصيحة، ويظل مثل هذا الخيار على محدوديته الأقل سوءا في ظل وهن التعليم الوطني والأهلي العربيين.

لقد غدا أمرا معلوما بما يدنو من البداهة أن اللغة هي الجسر الرابط لأنسجة الاجتماع، وهي التي تشد الأفراد بعضهم ببعض، وتوحد مشاعرهم ومخيالهم العام، والمجتمع الذي تضطرب لغته تهتز مؤسساته الحيوية وروابطه العامة. فاللغة ليست مجرد أداة للتعبير كما يتصور البعض، بل هي نفسها نظام ومنطق ورؤية للعالم، ونحن نفكر على النحو الذي نتكلم به كما يقول الفيلسوف الفرنسي لالاند. وهي إلى جانب ذلك تعكس نمط أو أنماط حياة لمجتمع معين على ما يذكرنا الفيلسوف النمساوي فيتغنشتاين. هذه حقائق بديهية يعرفها حتى طلاب المعاهد الثانوية، لكن للأسف لا يفهمها صناع القرار والساسة العرب، أو أنهم لا يريدون فهمها.

وهنا ننتقل إلى الجزء الثاني من المسألة الذي يخص العلاقة بين اللغة والحداثة نجاحا أو فشلا. فإذا كانت الحداثة تعني في وجه من وجوهها تعميم فضائل «العقلنة» على ما يذكر ماكس فيبر أحد أهم منظري الحداثة الألمان، فإن هذا الأمر لا يتم إلا بتوسل لغة قومية جامعة تصهر الوعي العام وتتيح القدرة على التلقي السليم، ثم الابتكار والجدة لدى أهلها. ما يميز مثلا المجتمعات «الحداثية» عن غيرها هو قدرتها على نشر المعارف والعلوم، وإشاعة مكتسبات التقنية على عموم الجسم الاجتماعي بما يجعل منها حالة مساكنة للمجتمع ومنبثة في مؤسساته، بدل أن تكون قصرا على نخبة من المختصين والتقنيين في جامعاتهم أو مختبراتهم، أو على صفوة من منتجي الأفكار «المعقلنة». هذا ما يعطي أهمية خاصة لاستخدام اللغة الأم المنغرسة بالسليقة في أعماق الوجدان الفردي والجماعي باعتبارها الجسر الرابط بين النخبة والجمهور من جهة، وبين ثقافة المدرسة والجامعة الصفوية وثقافة الشعب من جهة أخرى. وإذا كانت الأفكار العلمية والترشيدية في المجتمعات المتخلفة تظل حبيسة بعض أقسام العلوم في الجامعات والمختبرات فإنها في المجتمعات الحداثية تكاد تصبح ثقافة عامة تنتقل عبر اللغة الموزعة بدورها بين أجناس الخطاب المختلفة من آداب وفنون واقتصاد وسياسة وإعلام وغيرها، بما يتيح استيعابها وتداولها على نطاق واسع. ولعل ظاهرة الخيال العلمي المعممة عبر الرواية الشعبية واسعة الاستهلاك في المجتمعات الغربية على سذاجتها وسطحيتها من بعض الوجوه، تقدم صورة عن كيفية تمدد الثقافة العلمية إلى الأوساط الشعبية الواسعة.

وحاصل القول هنا أن الأمم لا يمكنها أن تنجز نهضة علمية أو حضارية جادة من دون أن تعتمد على لغتها القومية الجامعة (أو لغاتها) وتعمل على نشرها على أوسع نطاق ممكن. هذا هو السبيل الوحيد لنقل العلوم والمعارف من النخب وبسطها بين أيدي الجمهور، والانتقال بها من الفضاء الجامعي الضيق إلى الفضاء العام الرحب. بلغة أخرى، هذا هو طريق تعميم فضائل العقلنة، ومكتسبات الحداثة على عموم الجسم الاجتماعي.

وعليه أقول إن الإقدام على مشروع تعريب جاد وإشاعة استخدام العربية وضع العرب على سكة النهوض العلمي والمشاركة الجادة في الحداثة بدل الاكتفاء بالسخط على أوضاعنا الراهنة، وترداد سرديات الحداثة المظفرة، وتمجيد مناقبها على نحو ما نقرأ ذلك في أدبيات النخب «الحداثية» العربية المحبطة.

إن العناية باللغة العربية وإنزالها المنزلة اللائقة بها كأعرق وأثرى لغات العالم، لكفيلين بأن يجعلا منها لغة الحاضر والمستقبل، وليس لغة الماضي التليد الذي نتغنى بأمجاده الضائعة، مثلما يجعلان منها معبرا نحو أفق حداثة حية وفاعلة. لقد بقي العرب عاجزين عن طرق دروب الحداثة مثلما بقيت هي غريبة عنهم، لأنهم بكل بساطة لم يوطنوا هذه الحداثة داخل لغتهم، ولم يفعّلوا لغتهم بالقدر الذي يتيح لها طرق دروب الحداثة أو الحداثات.

حينما حلت الهزيمة الماحقة بألمانيا النازية وتزلزل معها ضميرها العام، كان جواب مارتن هايدغر، أحد أهم وألمع فلاسفة الألمان وأوروبا في القرن العشرين، بالقول إن على ألمانيا أن تجدد لغتها، ويعني بذلك ضرورة مراجعة وجهتها في الإطلال على الوجود والنظر للأشياء، وربما يجدر بنا نحن العرب في أجواء هذا التيه والتخبط أن نرفع الصوت عاليا بالحاجة إلى إحياء وتجديد لغة الضاد، علنا نتملك مجددا روح العصر ونفتح ممكنات المستقبل.