المسلمون والمواطنة والاندماج

TT

التفكير في حال المسلمين الذين قدموا، خلال العقود الخمسة الماضية خاصة، إلى أوروبا أو أميركا الشمالية، يحمل على مراجعة مفهوم المواطنة. إن المسلمين في البلدان المشار إليها يجابهون بضرورة اجتماعية واقتصادية وثقافية معا، هي ضرورة الاندماج في البلاد التي اختاروا حمل جنسياتها. غير أن الاندماج ليس مجرد قرار إداري يخول التوافر على جواز سفر البلد الذي ينتمي إليه المرء، بل هو سيرورة عسيرة تستوجب التنقل، جيئة وذهابا، بين القبول من قبل الساكنة الأصلية للبلد، وبين الإرادة الفعلية للاندماج.

هذا الواقع هو ما أقصده بوجوب مراجعة مفهوم المواطنة ذاته، يعني أنني أود التمييز بين شيئين اثنين: أولهما هو المواطن «الحق» وثانيهما هو المواطن «حامل الجنسية فقط»، وشتان ما بين النعتين. ففرق كبير بين كونك مواطنا «على الحقيقة» وبين كونك مجرد حامل للجنسية في البلد الذي تحيا فيه. المواطنون شيء، وحملة الجنسية شيء آخر. فأما الجنسية فهي تعبير عن ترجمة قانونية لوضعية لشخص تبيح له التنقل في المكان والتحرك بين البلدان، علامتها الدالة عليها هي جواز السفر الذي يحمله. وأما المواطنة فهي وإن كان لها مظهر قانوني فهي انتماء تاريخي واشتراك في الثقافة في معناها الواسع.

إن الحديث عن الاندماج، هو بالضرورة حديث في الإشكال الذي يقوم في الفرق بين الجنسية والقانون من جهة أولى وبين المواطنة بما تقتضيه من جهة ثانية، وإذ يكون الشأن متعلقا باندماج المسلمين في دول العالم غير الإسلامية فإن الاندماج يغدو قضية تكتسي أبعادا كثيرة نسعى في حديثنا هذا إلى الإبانة عن بعض أوجهها.

يجمع كل الذين انشغلوا بموضوع الهجرة على التمييز في المهاجرين العرب والمسلمين بين الجيل الأول، جيل ستينات القرن الماضي وما قبله، والجيلين الثاني والثالث. ذلك أن هناك فروقا بينة في السلوك تقوم بين الأجيال الثلاثة. فأما أبناء الجيل الأول فإنهم ظلوا على العموم حاملين لجنسيات بلدانهم الأصلية، وكانوا يعتبرون إقامتهم مؤقتة في الدول التي ارتحلوا إليها طلبا للرزق في أغلب الأحوال، فهناك بالطبع، أعداد قليلة وفدوا إلى تلك البلاد فرارا من قمع الأنظمة السياسية في بلدانهم الأصلية، فهم إذن لاجئون سياسيون). كانوا إذن، من الناحية الوجدانية، غير منتسبين إلى البلاد التي هاجروا إليها، وكانت العطلة الصيفية عندهم فرصة لمعاودة الاتصال بالأهل وتعريف الأولاد بالبلاد التي ينتمون إليها الانتماء الحقيقي لا الوهمي أو «الإداري» فحسب. ظل أبناء الجيل الأول متشبثين بما يعتبرونه صميمية لا يمكن أبدا التفريط فيها. من ذلك مثلا أنهم كانوا، من الناحية السلوكية، يقيمون فصلا تاما بين حياة البيت والحياة «العامة»: فأما في البيت فاللباس هو العباءة البيتية التي لا يجوز التنقل بها في الشارع وأما في الشارع فإن التنقل يكون بلباس بلد الإقامة حرصا على عدم المجاهرة بالهوية العميقة كما تقول باحثة فرنسية من أصول مغاربية.

أما الأبناء من الجيلين الثاني والثالث فهم أولا «مواطنون» فرنسيون أو بلجيكيون أو ألمان... بالنظر إلى قوانين الجنسية في تلك البلدان. وثانيا أنهم في ازدواجية بين البيت حيث المرجعية إسلامية والثقافة مغاربية أو تركية أو باكستانية...، وبين الشارع والمدرسة حيث المرجعية مخالفة لذلك. ثم إنهم في نظر الساكنة الأصلية أغراب وافدون وهم عند اليمين المتطرف مستغلون ينهبون خيراتهم ويضيقون عليهم في عيشهم. وفي مقابل ذلك هم في أعين أهل الدول التي يتحدر منها آباؤهم زائفون ليسوا من الغرب إلا في القشرة الظاهرة والمحاكاة الكاذبة في الوقت الذي لا يمتون فيه بصلة لثقافة بلد الأجداد. ورابعا، يعاني أبناء الجيلين المذكورين حصارا نفسيا، ويلازمهم شعور بالدونية ربما كان يتحول إلى عدوانية مجانية واهبة للوقوع في وهدة الانحراف (فالسحنة ولون البشرة وسكن الأحياء الهامشية الموسومة، في الأغلب، بالأحياء «الصعبة» حينا والأحياء «الهامشية» حينا آخر- كل هذه أمور تحمل دلالات سلبية وتجعل الشخص في حال الريبة والشك من أمره). وأخيرا فإن المعادلة تغدو أكثر تعقيدا متى انتبهنا إلى الصورة السلبية التي أخذت تستقر في العقل الغربي عن الإسلام وهي، كما نعلم، صورة تقرن الإسلام بالغلو والتطرف آنًا وبالإرهاب حينا آخر. لم يكن لفاجعة 11 سبتمبر (أيلول) أن تعمل على تصحيح الفكرة الكاذبة عن المسلمين، ناهيك عن تجند اليمين العنصري من أجل إذكاء نيران الحقد والشك في دول أوروبا وأميركا. أضف إلى ذلك عمل الحقد الصهيوني المتوافر له المال ووسائل الإعلام الجبارة. تلك بعض أبعاد اللوحة التي يستوجب الحديث عن المواطنة والاندماج استحضارها.

لا نجد في الوسع إلا أن ننهي حديثنا بإبداء ملاحظتين عامتين اثنتين أو قل، إذا شئت، بالتنبيه على حقيقتين اثنتين:

أول شروط الثبات عندي أن يكون المرء المسلم في البلاد المذكورة مواطنا صالحا ملتزما بقوانين البلد الذي يعيش فيه وينتمي إليه اليوم قانونيا وغدا انتماء كاملا يجمع بين القانون والثقافة. ذاك هو التاريخ وذاك حكمه. وليس لقوة أجنبية عن الموطنة أن تحشر أنفها في سلوك أبناء البلد ولا أن تملي عليهم ما يلزم أن يكون عليه سلوكهم وأن تكون عليه إرادتهم. الحقيقة الثانية هي أنه لا تعارض البتة بين الانتساب إلى من ذكرت من البلاد، قانونا وثقافة، وبين الانتماء إلى الإسلام دينا ووجدانا. كان الإسلام دوما، وتلك كانت قوته، قبولا للتعدد وتصريفا له في بلاد العرب والفرس وفي أصفهان وبلاد الشرق الأقصى وغيرها من البلاد. والإسلام اليوم أشد ما يكون حاجة إلى إخماد صوت الغلو ومن ثم إبعاد تهمة الإرهاب أن تلحق به. والرأي عندي أن المواطن المسلم يملك أن يكون نموذجا للمواطنة الصحيحة وممارسا لها بالقدر الذي يكون فيه مجليا لصورة الإسلام الحق من حيث هو يسر وتسامح وقبول للغير المختلف عن الذات. قوة الإسلام، في عبارة أخرى، تكمن بالذات في خلوه من سلطة الوسيط بين المخلوق والخالق. لذلك لم يكن الإسلام في حاجة إلى كنيسة. القول الأخير عندي أن الإسلام يملك، في زماننا، أن يكون قوة في الاندماج الإيجابي وبالتالي أن يتجاوز إشكالات الهوية والهجرة على النحو الذي يمثلان به اليوم في الوعي الغربي. في وسع المسلمين، في أرض الله الواسعة، القيام بذلك متى أدركوا درس الإسلام الحقيقي فكانوا سدا منيعا في وجه الغلو وكل ما يحمل على سلوك سبيل الإرهاب.