من الدولة المتلاشية إلى المتحشرجة

TT

يوم وصف كاتب لبناني التركيبة السياسية - الإدارية في لبنان بالدولة «المتلاشية»، صفق له البعض وتحفظ البعض الآخر على الوصف لا لمغالطته الواقع بل لكونه سابقا لأوانه.

آنذاك، ربما كان المتحفظون على بعض الحق. ولكن من يراقب اليوم تحركات ما تبقى من الدولة «اللبنانية» ومؤسساتها يشعر بأنها تعدت مرحلة «التلاشي» إلى مرحلة «الحشرجة»... قبل الاختناق في أحضان محبيها. ويزيد من مخاطر مرحلة الحشرجة التي يمر بها لبنان اليوم أنها تأخذ بخناقه في أحرج ظروفه داخليا وأدقها إقليميا.

داخليا، بدأت موجة الغلاء بالقضاء على ما تبقى من صبر اللبنانيين على أزماتهم المزمنة، بدءا بملف الكهرباء المراوح مكانه منذ عشرين سنة، مرورا بالدين الداخلي المتفاقم سنة إثر سنة، وانتهاء بالبطالة المقنعة بهجرة الأدمغة واليد العاملة. وكل ذلك في وقت لا ينكر فيه أحد أن الثقة باتت مفقودة في الشارع اللبناني بين عمر وعلي ومارون ومعروف.

أما خارجيا، فحدث ولا حرج... المنطقة بأكملها تعيش هواجس الحلول المحبطة، فلسطينيا، وعراقيا، وإيرانيا، وتبعات انسداد أفق التسويات الدولية والأميركية لملفاتها، فيما تطغى، باطراد، العصبيات الطائفية والعرقية على منطق التعاطي الدبلوماسي بين دول المنطقة، مما يوحي بأن الشرق الأوسط يتجه إلى مرحلة صراع سافر بين الأصوليين والسلفيين والمتزمتين.

هل كتب للمنطقة التي كانت مهد أديان المحبة والتسامح السماوية أن تصبح ساحة صراع لمطوعي المعتقدات الدينية في خدمة مآربهم الدنيوية؟ واستطرادا، هل صدّر الشرق الأوسط الأديان في عصور الظلمة ليستوردها ضغائن في عصور المعرفة والنور؟

والمؤسف في ظل هذه الظروف أن «الدولة»، عوض أن تعالج هموم اللبنانيين المعيشية، تنشغل بمشكلة جانبية: تحديد الجهة المخولة محاكمة من سُمّوا «شهود الزور» في جريمة اغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري: هل تكون المجلس العدلي أم القضاء اللبناني العادي... تماما كما انشغل البيزنطيون من قبل بـ«مشكلة» تحديد جنس الملائكة وجيوش العدو تدق أبواب مدينتهم.

في هذا السياق، بدا رئيس الحكومة السابقة، فؤاد السنيورة، مترفقا أكثر من اللزوم بـ«الدولة» في لبنان حين اعتبر، في تقييمه لتجربته في الحكم بين يوليو (تموز) 2008 ونوفمبر (تشرين الثاني) 2009، أن حكومته - لا الدولة بقضها وقضيضها - كانت «مقيدة» وعاجزة عن اتخاذ قراراتها حسب نصوص الدستور اللبناني.

متى كانت الدولة اللبنانية «غير مقيدة» في اتخاذ أي قرار رئيسي، داخليا كان أم خارجيا، لتدعي أي حكومة كانت أنها قادرة على ممارسة الحكم بلا قيد أو شرط؟

آخر محاولة لبناء الدولة القادرة في لبنان كانت عام 1958، في عهد الرئيس الراحل فؤاد شهاب.

آنذاك، ورغم أن تفاهم العهد الشهابي مع الجمهورية العربية المتحدة أتاح لرئيسه فرصة تاريخية لإقامة دولة عاملة (Functional) في لبنان، باءت تجربته بالفشل لمجرد أنها طمحت إلى إقامة دولة حديثة على رقعة جغرافية – ديموغرافية، كانت - ولا تزال - حائرة بين مجتمع الطوائف ومجتمع المواطنين.

أما اليوم، وبعد أن تحول العمل السياسي الداخلي في لبنان إلى مجرد تنافس على جدارة الترشح لدور العميل لهذه الجهة الخارجية أو تلك، فقَد شعار بناء الدولة اللبنانية ما تبقى من مصداقيته، وفقد دعاته آخر ورقة توت كانت تغطي «دعوتهم»... فلماذا نستغرب أن يكون لبنان البلد الوحيد في العالم الذي يفوق عدد أبنائه في الخارج أضعاف أضعاف عددهم في الداخل؟