الانتشار الإيراني ومشكلات التقدير والتدبير

TT

تتوالى في الأسابيع الأخيرة «الكشوف» المتبادلة بين الأميركيين والإيرانيين بقصد ومن دون قصد. فقد جاءت أولا وثائق العراق الأربعمائة ألف، التي فضحت الإدارتين السياسية والعسكرية للاحتلال الأميركي للعراق، لكنها فضحت أيضا إيران والمالكي مرشحها لرئاسة الوزراء للمرة الثانية. ويوم السبت في 23 أكتوبر (تشرين الأول) نشرت الصحف الأميركية تقريرا عن «المدفوعات» الإيرانية للرئيس الأفغاني عبر مدير مكتبه ومساعدين آخرين. والساحتان الأفغانية والعراقية شديدتا الحساسية والدلالة على العلائق التي قامت بين إدارة الرئيس بوش الابن، والأجهزة ثم السلطات الإيرانية منذ عام 2001 / 2002 وحتى نهاية عهدي بوش أواخر عام 2008. فالمعروف أنه منذ عام 1996 / 1997 أقبلت الإدارتان الباكستانية والأميركية على دعم حركة طالبان في حلولها محل إدارة «المجاهدين» الفوضوية والحافلة بالصراعات. وفي مقابل ذلك، ومنذ عام 1998 أقبل الهنود والإيرانيون على دعم قوات تحالف الشمال، في محاولة لمنع الباكستانيين من الاستيلاء من جديد على الشأن الأفغاني المضطرب، خوفا من استخدامه ضدهما. وبذلك فإن التدخل الإيراني في الشأن الأفغاني تعدى مناطق الحدود، ومناطق الشيعة / الهزارة، إلى وادي بانشير والجوار مع دول آسيا الوسطى. وانقلب المشهد مرة أخرى - كما صار معروفا - بعد هجمات «القاعدة» انطلاقا من أفغانستان، في 11 سبتمبر (أيلول) 2001.

فقد قررت الإدارة الأميركية التدخل في أفغانستان لملاحقة «القاعدة»، وإسقاط حكومة طالبان، ونسقت من أجل ذلك مع الإدارة الباكستانية (عبر الجنرال مشرف الذي كان قد استولى على السلطة هناك أواخر عام 1999)، ومع الهند وإيران. ولأن الولايات المتحدة اتخذت من «تحالف الشمال» أداة للغزو، مثلما فعلت فيما بعد في العراق مع الأحزاب الكردية ومسلحي المعارضة الآتين من إيران؛ فإن المفهوم أن العلاقات الإيرانية مع شيعة الهزارة، ومع تحالف الشمال (والذي صار الحكومة الجديدة في البلاد) قد شُرعنت وتوثقت، واشتهر فيما بعد قول السلطات الإيرانية إنها تعاونت مع الأميركيين «لوجيستيا» في الغزو الأفغاني.

وسعيا لإحداث شيء من التوازن؛ فإن الأميركيين استقطبوا قوى من الأكثرية البشتونية كان رمزها كرزاي البشتوني الذي ولوه رئاسة الحكومة ثم رئاسة الجمهورية، وهو في الأصل أميركي من أصل أفغاني كان يملك مطاعم في الولايات المتحدة، مثل خليل زاد الأميركي / الأفغاني الذي نصبوه سفيرا لدى أفغانستان والعراق والأمم المتحدة. فالجديد الذي كشفه الأميركيون - وكانوا يعرفونه ولا شك - أنه حتى هذا الطرف كانت ولا تزال له علاقة مالية وسياسية في إيران منذ عام 2003 وحتى اليوم. وهذا يعلل موقفه في السنوات الماضية، في الاجتماعات المشتركة بين أفغانستان وباكستان وإيران بشأن مشكلات الحدود؛ إذ كان يدعم كل الوقت الموقف الإيراني في مواجهة باكستان المتهمة بعلاقات مستمرة عبر أجهزتها العسكرية والاستخبارية في حركة المقاومة الطالبانية.

يتسم الانتشار الإيراني لجهة أفغانستان إذن بالكثافة، وعدم إهمال أي طرف؛ بما في ذلك الأطراف التي كانت ظاهرا على علاقة عدائية مع إيران. بيد أن الأكثر دلالة وإثارة للانتباه أن هذا الانتشار كان، ولا يزال، على تداخل شديد بالانتشار الأميركي، وليس بالمعنى الأمني وحسب؛ بل وبالمعنى السياسي أيضا. ويبدو ذلك - ومنذ سنوات - في المشهد العراقي. فمنذ البداية شاور الأميركيون الإيرانيين بشأن غزو العراق. ويقال إن الإيرانيين ترددوا خوفا من الانتشار الأميركي من حولهم من كل ناحية. لكن على أي حال، ورغم الحذر، فقد سمحوا لقوات المعارضة العراقية المتوطنة في إيران بالذهاب إلى المنطقة الكردية، بعد المشاركة في المؤتمرات الممهدة للغزو منذ عام 2002. ودخلت أجهزتهم مع قوات بدر، وتنظيم حزب الدعوة. وعندما برزت شعبويات مقتدى الصدر، داخلوا جيش المهدي الصدري. وخطر لهم نحو عام 2005 - عندما بدأت المناكفات بينهم وبين الأميركيين - أن يقيموا تنظيما يشبه تنظيم حزب الله في لبنان، باعتباره حركة مقاومة ضد الأميركيين، حتى لا تبقى عليهم شبهة التعاون مع الاحتلال، ولزيادة الضغوط على الإدارة الأميركية هناك.

وهكذا فقد أنشأوا «جيش القدس»، الذي يقال إن حزب الله شارك في تدريب كوادره. ورغم أهمية هذا التغلغل الأمني؛ فإن الأهم في هذا الصدد يبقى أمران: الاتفاق السياسي الكبير مع الأميركيين، والمشاركة في «تكوين السلطة» العراقية الحالية. فالمفهوم من كلام وودورد ومؤرخين آخرين لحروب بوش أن اتفاقا كبيرا جرى بين الطرفين بشأن العراق، كما حصل في أفغانستان وأكثر.

ويتضمن الاتفاق ثلاثة بنود: إنهاء سائر بنى الدولة العراقية السابقة. وإقامة عصب سلطوي عماده حزب الدعوة. وتصفية قوى النظام السابق (اجتثاث البعث)، ومكافحة الإرهاب. وما اختلف الطرفان لاحقا إلا على البند الثالث، لأن المفهوم كان أن الاجتثاث والمكافحة يقوم بهما الأميركيون والقوات الناشئة للنظام. لكن الإيرانيين - كما صار معروفا - تدخلوا عبر جيش القدس، وميليشيات مسلحة أخرى لاغتيال ضباط وعناصر سياسية، كما تدخلوا في النزاعات الطائفية السنية / الشيعية. وكان التفضيل الأميركي لحزب الدعوة ناجما عن أنه ليس تنظيما إيرانيا خالصا (لا يقول بولاية الفقيه، وكان عناصره منتشرين بين إيران وسورية ولبنان ولندن والمنطقة الكردية).

أما الساحة الثالثة التي حدث فيها انتشار إيراني كبير، لكن من دون تنسيق مع الأميركيين، فهي الساحة اللبنانية. وقد أحاطت بحزب الله منذ إنشائه أواخر عام 1982 حواجز وضوابط من مثل التنسيق مع سورية، واقتصار مهمته في البداية على مصارعة الاحتلال الإسرائيلي. بيد أن مهمته تغيرت طبيعتها بالتدريج بعد عام 2000 حتى وصل الأمر إلى ما هو عليه اليوم. وما هو عليه الأمر أن الإيرانيين استخدموا الحزب في التسعينات للتجاذب مع الولايات المتحدة عبر الجبهة على إسرائيل. لكن بعد عام 2000، ثم الخروج السوري من لبنان عام 2005، والدخول اللبناني في الصراع الإقليمي، تعدلت مهمة الحزب؛ إذ برزت الحاجة لارتهان الساحة اللبنانية كلها، فصار من الضروري أن يتدخل الحزب في الشأن الداخلي لـ«حماية المقاومة»، ولـ«حماية حصة الشيعة في النظام»، وللبروز طرفا مستقطبا لشيعة العالم العربي (الخليج على الخصوص)، ومؤهلا لحمل راية فلسطين. وقد أوضحت ذلك كله زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد الأخيرة للبنان، وما خطب وصرح به هو والسيد نصر الله.

ولا يقتصر الانتشار الإيراني الأمني والعسكري والسياسي على أفغانستان والعراق ولبنان. فهناك أيضا الانتشار السياسي / الأمني في سورية، ومع الحركات الفلسطينية والإسلامية. بيد أن الجديد في هذا المجال أن التداخل ما عاد مقتصرا على «شراكة الأعدقاء» بين إيران والولايات المتحدة؛ بل دخلت على الخط تركيا الأردوغانية أيضا، وفي عدة ساحات حتى في أفغانستان (هي هناك شريكة لحلف الأطلسي ولإثنية التركمان وإثنية الطاجيك!). والوضع الآن حساس وحساس جدا. فالولايات المتحدة تنفذ انسحابات تكتيكية، وتدخلا في «استراتيجية التفاوض» بين إسرائيل والعرب، ومع إيران. وكل طرف يدلي برهاناته وأَوراقه.

لكن كل الأطراف تظهر القوة والتجلد والجبروت استعدادا للجولة قبل الأخيرة. والمطلوب استراتيجية عربية وتدبير عربي، لا يبدوان متاحين حتى الآن.