أميركا بين الحقيقي والافتراضي

TT

أصدقائي.. وزملائي السابقون في السلك السياسي الرسمي يكثرون هذه الأيام من توجيه طلباتهم، التي هي أقرب إلى الأوامر، للإدارة الأميركية كي تحقق ما يلي:

* إرغام إسرائيل على وقف الاستيطان.

* إلزامها بتقديم كافة استحقاقات السلام الدائم والعادل وفق الشرعية الدولية.

* تحقيق الوعد الإلهي الذي تلقاه الرئيس بوش الابن بإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة.

وإلى جانب هذه الطلبات الرئيسية طلبات فرعية تشكل بمجموعها رزمة الطلبات المرحلية التي صارت محفوظة عن ظهر قلب، بدءا بالدعم المالي للسلطة، وليس انتهاء بإرخاء القبضة الإسرائيلية الخشنة عن الجسد الفلسطيني، كي يتسنى له مغادرة البؤس اليومي الذي يفرضه الاحتلال بكل أشكاله على المواطن الفلسطيني في كل مكان. ولا شك أن الأميركيين، وهم يتلقون هذه الطلبات، ينظرون بعين العطف المشوب بالحرج لكل طلب منها؛ بعين العطف لأنها طلبات محقة، أما الحرج فمبعثه قلة القدرة الأميركية على الاستجابة الفعالة.

ولعل ما يضاعف الحرج الأميركي، هو قيام الفلسطينيين، ومن معهم من العرب، بسحب كل الذرائع التي يمكن أن يبرر بها الأميركيون عدم قدرتهم على تحقيق ما هو مطلوب منهم، إذ لم يسجل أي من الطرفين العربي والفلسطيني على نفسه ولو نقطة واحدة قالوا فيها لا للأميركيين، سواء في مسألة شراء الوقت منذ عهد السنة حتى الثلاثة أشهر وحتى الشهرين، أو في أمر المبادرات.. حيث النزول عن شجرة الاستيطان لقاء المفاوضات غير المباشرة، ثم العدول عن غير المباشرة لمصلحة المباشرة، وهكذا.

وحين فشلت كل الجهود لتجاوز عقبة الاستيطان ولو تجاوزا لفظيا.. وبدأ تداول الخيارات البديلة، خصوصا على الصعيدين العربي والفلسطيني، تضاعف حرج الأميركيين، نظرا لأن البدائل المتداولة تبدأ عند أميركا وتنتهي عندها كذلك، سوى أن ما هو مطلوب تحت عنوان البدائل هو من النوع الذي لا تستطيع أميركا تحقيقه أو حتى النظر فيه، مثل فرض دولة فلسطينية من خلال الأمم المتحدة!!

وهنا.. وبعد كل الذي حدث.. خلال عهد الرئيس المحترم باراك حسين أوباما، صار بديهيا قدر ما هو ضروري.. الجلوس بهدوء والتفكير بموضوعية، في الإجابة عن سؤال ما زال لما يجد الجواب الصحيح عنه.

سؤال لا يتصل بالواجبات الأميركية الافتراضية التي هي جوهر المنطق العربي في التعاطي مع السياسة الأميركية الشرق أوسطية، بل يتصل بالقدرة الأميركية التي لا تحددها القوة الكونية للدولة العظمى.. وهي قوة جبارة من كل الجوانب والوجوه، وإنما تحددها محصلة ما تستطيع أميركا تمريره على إسرائيل، والحصول على موافقتها عليه.

إن الأمر بحاجة إلى وضع النقاط على الحروف، وسؤال الأميركيين صراحة ما الذي تقدرون عليه.. وما الذي لا تقدرون؟ ماذا تريدون منا كي نساعدكم على الإقلاع في مشروع تسوية جديد؟ وما هي ضماناتكم لنا حال استجابتنا لكل ما تطلبون؟ ولعله من الأمور التي لا تصدق هو أن هذا السؤال لم يطرح في المحافل ذات الصلة بتأسيس علاقة سياسية فلسطينية أميركية وعربية أميركية، فلقد سارت العلاقات مع الدولة العظمى وفق اعتبارات افتراضية وليست حقيقية تجسدها تفاهمات واتفاقات، وخضعت هذه العلاقة لفهم أحادي من الجانب الفلسطيني والعربي على الأقل في أمر التسوية على المسار الفلسطيني الإسرائيلي. وهذا الفهم كان مغلفا ببديهيات من نوع: «إن أميركا قادرة وهي من يستطيع الضغط على إسرائيل» وهي كذلك بحاجة إلى استرضاء العرب في معاركها الكونية ضد التطرف السياسي والإرهاب.. وملء فراغات العالم الجديد الذي نشأ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وفي غمار الحرب العالمية الثالثة التي بدأت ولم تنته، بدأت بالتقسيط، ولن نرى إجمالا محددا لخلاصاتها نظرا لاستمرارها وتراجع الوضع الأميركي على معظم جبهاتها.

ولقد سعد الفلسطينيون كثيرا بعبارة قالها أحد كبار المسؤولين الأميركيين مفادها أن الأمن القومي الأميركي يتطلب تسوية سياسية في الشرق الأوسط، غير أن السعادة لم تكتمل حين اضطر من سمع هذه الجملة إلى اختيار المفهوم الحقيقي لها، فإذا به وبتبسيط إيجابي مجرد عنوان عام، لا يعني على الإطلاق تلبية المطالب الفلسطينية ولا حتى الذهاب إلى تسوية وفق مواصفات العدالة الافتراضية من الجانب الفلسطيني.

إن العلاقة الفلسطينية الأميركية أضحت بحاجة إلى مراجعة، ليس بمعنى النكوص عنها أو تطويرها.. فالجميع يعلم أن أميركا ليست مجرد داعم للسلطة الفلسطينية، بل إنها عرابها السياسي والاقتصادي والأمني، وهذا أمر لا ينكره حتى غلاة المدافعين عن استقلالية القرار السياسي الفلسطيني، كما أنه أمر لا يعتبر عيبا جوهريا.. إذ أن الأميركيين ملأوا فراغا يفترض أن يكون مملوءا من قبل العرب.. كما أن حضورهم القوي في الحياة الفلسطينية هو حضور أمر واقع.. نتأكد منه حين نعلم أن أقصى ما يتمناه المعارضون للنفوذ الأميركي على الساحة الفلسطينية هو الحصول على اعتراف أميركي، والتنعم بصلات مع الدولة العظمى ولو على مستوى مسؤولين سابقين.

غير أن الأمر هنا ليس متصلا بمبدأ العلاقة، وإنما في كيفية فهمها، وبناء السياسات على حقائقها وليس على الافتراضات المستحيلة لها، ولو أحسنا الإجابة على هذا السؤال لاسترحنا وأرحنا.

لاسترحنا من عناء توجيه الطلبات التي لا تستجاب، ولاستراح الأميركيون من حرج عجزهم عن تلبية مطالبنا التي لا تنتهي، ولعلنا في ذلك نضع أقدامنا على الطريق الصحيح.. أي الواقعي.