شمموا الحمار وردة.. قام أكلها

TT

لورنس، أو ما يسمى بـ(لورنس العرب)، في معرض كتابه المشهور: (أعمدة الحكمة السبعة)، أبان احتدام الحرب العالمية الأولى، ومعارك الشريف فيصل مع الأتراك لإخراجهم من الجزيرة العربية بمساعدة بريطانيا العظمى في ذلك الوقت، كان لورنس على ساحل البحر الأحمر في منطقة بين ينبع وضبا، وإذا به يشاهد عقدا من الزهور يطفح على الماء، فما كان منه إلا أن يقذف بنفسه في داخل البحر بكامل ملابسه ليحصل على ذلك العقد الذي يبدو أنه سقط من إحدى السفن العابرة؛ لأنه في هذه الصحراء القاحلة لم يشاهد أي زهرة.

وقبله بقرن من الزمان وصل إلى مكة عام (1806) الرحالة الإسباني (دومنغو باديا) الذي أطلق على نفسه اسم (علي بابا العباس) ويقول: «أثناء إقامتي في مكة لم أشاهد زهورا باستثناء واحدة عند ذهابي إلى عرفات، فأمرت واحدا من خاصتي أن يقطع النبتة ويأتي بها إلي، لكن لاحظه بعض الحجاج الذين أبعدوه في الحال عنها وزجروه، وقالوا له إنه من الخطأ اقتلاع أو قص نبتة خلال الحج إلى عرفات، فوجدت نفسي مجبرا على ترك تلك الزهرة الوحيدة التي رأيتها».

ولا شك أنهما لم يصعدا إلى مرتفعات الطائف ليشاهدا الورود التي يقطر منها أروع وأزكى (دهن ورد) في العالم.

وبحكم أنني نشأت في الطائف فقد فتنت بكل ما له صلة بهذه النباتات، ورسخ في عاطفتي الجياشة هذه سماعي لكل الأغاني القديمة ابتداء بـ(عمي يا بياع الورد)، مرورا بـ(شوف الزهور واتعلم)، وانتهاء بـ(يا زهرة في خيالي).

وعلى هذا الأساس أقنعت أحد أصدقائي بأن نفتح محلا لبيع الزهور في جدة، فمنه هو المال، ومني أنا الإشراف والبيع والرعاية، وهذا ما حصل في منتصف السبعينات من القرن الفارط.

ويبدو أننا تورطنا في مشروعنا ذاك في الوقت الخطأ؛ حيث إنه لم يكن في جدة كلها أي محل مماثل سوى محل آخر لتاجر محترف يعرف من أين تؤكل الكتف، فهو قبل أن يفتح محله كان ذكيا وتعاقد مع (التشريفات الملكية) لكي يمدهم بالزهور بمختلف أنواعها، لكي يقدموها لضيوف الدولة، ويزينوا بها سكناهم.

كنت في وقتها أستورد الزهور من لبنان ومصر، واقفا طوال اليوم أنتظر الزبائن الذين يأتون أحيانا للمحل إما للتندر (والتريقة)، وإما أن بعضهم يأخذون (بالشمشمة) فقط بأنوفهم المزيتة التي وددت أن أهرسها، دون أن يشتروا زهرة واحدة، وقبل أن تذبل كنت أسارع بواعز من ضميري بتقديم بعضها لبنات المدارس كهدايا، رغبة مني في إضفاء ونشر ثقافة الجمال في البلد لا أكثر ولا أقل، والله على ما أقول شهيد. وكان هناك مكتب عقاري ملاصق لمحلي يملكه رجل عجوز، كان رحمه الله كلما شاهدني يائسا ومحبطا يشجعني على الاستمرار وعدم التوقف (فالألف ميل تبدأ بخطوة واحدة) - على حد قوله – فأصدقه، وهذا هو ما دفعني للتورط أكثر، وفي نهاية كل أسبوع عندما تذبل أكداس الزهور والورود، كان يأتي هو ليأخذها، واكتشفت أخيرا أنه يربي في حوش منزله قطيع من الماعز ويعلفها بها، ولا شك أن حليبها كان عطرا.

لا أريد أن أطيل عليكم، ففي كل شهر يتصل بي تليفونيا شريكي المقيم في الرياض يسألني عن الأرباح دون أي نتيجة تذكر، إلى درجة أنه بصراحة أخذ يشك بذمتي - ومعه حق - ولكن حصلت بيننا ملاسنة انتهت بتصفية المحل وإغلاقه.

وكان أكثر المتأسفين على تلك النكبة هو صاحب المكتب العقاري و(معيزه).

واستأجر الدكان بعدنا أحد الإخوة من اليمن الشقيق لبيع (الشاورما)، وتهافت عليه الناس من كل حدب وصوب، وكنت من ضمن زبائنه. ولا أنسى أنني عندما كنت آتي إليه أحيانا لطلب (ساندويتش) كان يقول لي وهو يقهقه ويغمز بعينيه: هل تريده مع أوراق الورد أو القرنفل أحسن؟! ولا أرد عليه سوى بجملة واحدة: أرجوك كثر الشطة.

[email protected]