«وهابية».. أم دعوة إسلامية ونهضة «تنويرية»؟

TT

شاركت في الأسبوع الماضي في برنامج «واجه الصحافة» الذي تبثه قناة «العربية» ويديره الإعلامي الشهير المتمكن الأستاذ داود الشريان.. وكان موضوع الحلقة التي شاركنا فيها عن «دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب»، والجدل غير المتوازن الذي دار حولها ولا يزال يدور، بما في ذلك الجدل حول مفردة مصطنعة: لم يخترها الشيخ - بطبيعة الحال -.. بمعنى أنه كان شديد الإنكار على التسميات والأوصاف (غير الشرعية)، فلا يعقل - والحالة هذه - أن يرتضي ما ينكره!!.. ثم هي مفردة (الوهابية) لم تستعملها - ولم تردها - الدولة التي قامت على دعوة الشيخ (في العقيدة والشريعة) لم تستعمل هذه المفردة في أي وثيقة سياسية أو نظامية على مدى ثلاثة قرون تقريبا.

ولقد هيأتُ منظومة من الأفكار والمفاهيم والمعلومات - التي أحسبها مهمة - للمشاركة في تلك الندوة.. وبما أن وقت الحلقة قصير - نسبيا - (50 دقيقة)، وبما أننا كنا أربعة مشاركين (خامسنا الأستاذ داود)، فإن المجال لم يتسع لطرح ما هيأته.. والضميمة الأخرى هي: أنني عوَدت من يستمع إلى أو يقرأ لي أن تكون رسالتي له «كاملة» - بحسب المستطاع - : احتراما لعقله، ووفاء للموضوع، ومحاولة لتربية الذات على «الإحسان» في النطق والكتابة.

لأجل ذلك كله، سأبسط - على مكث - ما هيأته وأعددته لئلا تحبس الأفكار بعد خروجها من أكمامها، ولكي أشرك القارئ في هذا الشأن.

من الأفكار والمفاهيم التي أعدت:

لنبدأ بنقطة منهجية تتعلق بالعدل والإنصاف.. إن في تاريخنا ظاهرة متكررة - ومؤسفة - وهي الطعن في العلماء وتجريحهم وإسقاط هيبتهم ومكانتهم (وهذا شيء مختلف عن النقد المشروع لهم، والاستدراك الواجب عليهم).

فابن تيمية - مثلا - تعرض لهجوم واسع النطاق في حياته، وبعد مماته.. وبعد ذلك بخمسة قرون - تقريبا - تعرض أحد تلامذته وهو الشيخ محمد بن عبد الوهاب لهجوم واسع النطاق - أيضا - في حياته وبعد مماته وإلى يوم الناس هذا.

وهذا ظلم بواح يتوجب دفعه.

ونحن إذ ندفع الظلم عن هؤلاء العلماء، فإننا لا نقول بعصمتهم.

أولا: لأنه لا عصمة إلا للنبي المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم: «وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى».

ثانيا: لأن هذين الرجلين - بوجه خاص - كانا ينتقدان - بعلم وحزم - رفعَ العلماء إلى مرتبة القداسة والعصمة.. وخلاصة هذه النقطة: أن الدفاع عن العلماء واجب علمي وأخلاقي نباشره، والتقديس محظور عقدي نتقيه، ولا نقع فيه.

وأقوى وأنجع جهد لدفع الظلم المعنوي الذي نزل بالشيخ محمد بن عبد الوهاب هو: إظهار حقيقة دعوته.. والمنهج العلمي المعتبر - ها هنا - هو: إعلاء السند: بالرجوع إلى كلامه هو نفسه. فالمرء يُعرف بما قال: لا بما قيل عنه.

وبالقراءة المنهجية لنتاج الشيخ وجدنا ما يلي:

أولا: وجدنا أن مرجعيته العليا هي: الكتاب والسنة، فهو دوما يستدل ويحتج بقول الله جل ثناؤه: «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر».. ولعل الأمير سلمان بن عبد العزيز قد قصد هذه المرجعية وهو يقول: إن الشيخ لم يخالف الكتاب والسنة، وإن من ادعى غير ذلك فعليه بالدليل.

ثانيا: وجدنا أن رسائله في الاعتقاد إنما هي إحياء وتجديد لعقيدة أهل السنة والجماعة، وهي - بالتالي - إحياء وتجديد لـ«العقيدة الطحاوية» التي قال مؤلفها: إنها عقيدة مشايخه: أبي حنيفة، وأبي يوسف، والشيباني.

ومن هو الطحاوي مؤلف هذه العقيدة؟ هو إمام (حنفي) كبير من «طحا»: إحدى قرى صعيد مصر. ولقد عاش في القرن الثالث (بينه وبين الشيخ مجمد بن عبد الوهاب ألف عام تقريبا).. والطحاوي لم يكن (وهابيا)!!. ذلك أن التاريخ لا ينكس ولا يعكس، فلا يقال: آدم القرشي، لأن قريشا وجدت بعد آدم بألوف السنين.

والعقيدة التي أحياها الشيخ هي التي صدع بها الإمام أحمد بن حنبل من قبل.. وهي التي حررها القيرواني المالكي في مقدمة كتابه (الرسالة).. من هنا، فإن الشيخ أعاد تحرير عقيدة أئمة أهل السنة.. ولم يبتدع شيئا قط.. وهو نفسه قد نص على ذلك في إحدى رسائله إذ قال: «عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة. وأشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقده أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والإيمان بالقدر خيره وشره. ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله من غير تحريف ولا تعطيل بل أعتقد أن الله: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). وأومن بأن نبينا محمدا (صلى الله عليه وسلم) خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته، وأفضل أمته أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق ثم عثمان ذو النورين ثم علي المرتضى ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة ثم أهل بدر ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضوان الله عليهم. وأتولى أصحاب رسول الله وأذكر محاسنهم، وأستغفر لهم، وأكف عن مساوئهم، وأُمسك عن عما شجر بينهم وأعتقد فضلهم، عملا بقوله تعالى (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). وأن أترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء، وأن أعرف لآل البيت قدرهم ووجوب محبتهم، وأقر بكرامات الأولياء إلا أنهم لا يستحقون من حق الله شيئا، ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار إلا من شهد له الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء، ولا أكفّر أحدا من المسلمين بذنبه ولا أُخرجه من دائرة الإسلام».

وينبغي تفسير سائر كلام الشيخ وضبطه بمقياس هذه العقيدة الأم المحددة الناصعة التي لم يثبت أنه قد تخلى عنها إلى أن لقي ربه رحمه الله.. نعم ينبغي أن تفسر كل عباراته في ضوء ذلك. فإن منهج التوفيق أعقل وأجدى وأعدل، ولا سيما في حالة رد الفرع إلى الأصل، والجزئي إلى الكلي.

ونلحظ أن الشيخ حرص على إثبات عبارة حاكمة رددها جميع الأئمة الثقات من قبله وهي «لا أكفر أحدا من المسلمين بذنبه، ولا أخرجه من دائرة الإسلام»

فهذا القول مبني على علم.

فالشيخ يعلم: أن تكفير من ليس بكافر: كفر. فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه» (أي رجع عليه).

والشيخ يعلم: أن من تعظيم كلمة التوحيد: البراءة من تكفير قائلها. قال النبي لمن لم يعتد بلا إله إلا الله - متأولا - : «وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟».

والشيخ يعلم أن مهمة الداعية هي إدخال الناس في الإسلام، لا إخراجهم منه.. قال النبي: «لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم».. ومن مفاهيم المقابلة - هنا - أن إخراج الناس من الإسلام - بتكفيرهم - صورة من صور الصد عن سبيل الله ودينه، وهي جناية ينخلع لها قلب المسلم العادي، فكيف بالعلماء؟