صحافة الوجبة السريعة

TT

الحدث الأكبر لـ«أبناء الكار» (مهنة الصحافة) هذا الأسبوع صدور أول صحيفة «quality» - المقابل بالعربية «رصينة» - في ربع قرن، تخاطب الطبقة المتوسطة من مثقفين ومهنيين يعلمون الصغار، ويعالجون أجسامهم، ويترافعون في المحاكم، ويؤثرون على الرأي العام.

وتعريف للقراء خارج العالم الأنغلوساكسوني، فالصحافة البريطانية (ونعرفها بفليت ستريت، اسم الشارع الذي ولدت وبقيت فيها لثلاثة قرون ولا يزال يطلق على السلطة الرابعة، رغم مرور 20 عاما على رحيل الصحف القومية العشر الأشهر عن الشارع، بسبب ظهور تجار الصحافة) تاريخيا انقسمت إلى ثلاثة أقسام من ناحية الجدية والمسؤولية..

الرصينة أو «broad - sheet»، والتسمية حسب الورق من القطع العريض، لأن صفحاتها كبيرة تحتاج إلى فرد ذراعيك لقراءتها، وهي «الديلي تلغراف»، و«الفاينانشيال تايمز»، و«التايمز»، و«الغارديان»، و«الإندبندنت»، وإن كانت الثلاث الأخيرة قد قطعت طبعتها في السنوات الأخيرة إلى النصف بحجم التابلويد، لأسباب مادية، وطمعا في زيادة التوزيع (لتسهيل قراءتها للمحشورين في القطارات والأتوبيسات)، فلم تفلح الحيلة لخيبة أمل مصمميها من جيل شباب.

وفي أسفل السلم الطبقي الصحافي تجيء صحافة التابلويد (tabloid)، وهي مثل نصف صفحة الرصينة، مع إدارتها 90 درجة رأسيا، وأحيانا تعرف بـ«Red - Tops» أي التي تطبع ترويستها بالحبر الأحمر (الترويسة هي اسم الصحيفة «mast - head» من التعبير البحري «راية انتماء صاري السفينة»، حيث أكثر من ثلثي التعبيرات الإنجليزية أصلها بحري) وهي تعتمد الإثارة والمبالغة، وصور وأخبار المشاهير من النجوم ولاعبي كرة القدم (وصورة الحسناء شبه المتجردة من الثياب في الصفحة الثالثة أصبحت مؤسسة اجتماعية تتسابق الطامعات في الشهرة إلى الظهور فيها)، ولا تحظى باحترام المهنيين والمثقفين، رغم أنها تشكل الرأي العام، وتعكس المزاج الشعبي، لأنها توزع للأغلبية («الصان»، و«الديلي ستار»، و«الديلي سبورت» و«الميرور» فيما بينها تدور بين أيدي سبعة ملايين قارئ، ضعف قراء بقية الصحف الرصينة والمتوسطة مجتمعة).

وفي المنتصف تجيء الصحف المسماة «black - tops»، لأن ترويستها تطبع بالحبر الأسود، وتخاطب وسط وأدنى الطبقات المتوسطة، وغالبية النساء (خاصة «الديلي ميل»)؛ وهي عادة محافظة تقع ما بين اليمين ويمين الوسط، وتروج للزواج والأسرة التقليدية والتعليم الكلاسيكي ومعاداة الاتحاد الأوروبي، والتوجس من آيديولوجية الخضر التي تدعي أن الرأسمالية وراء ظاهرة الاحتباس الحراري.

تقسيم صحافة فليت ستريت يعكس الانقسام الطبقي - وهو انقسام خاص بالمجتمع البريطاني لا يقاربه في ذلك أي مجتمع آخر في العالم - إلى الطبقة العاملة (والمقصود بها الشرائح الدنيا)، والطبقة المتوسطة من المهنيين والمتعلمين بشرائحها الأسفل والمتوسطة والأعلى، والطبقة الأرستقراطية وملاك الأراضي. والتقسيم اجتماعي ثقافي فقط، لا يلعب المستوى المالي أي دور فيه. فمثلا السباك الذي يصلح مواسير المياه في داري، أو الميكانيكي الذي أصلح السيارة في ورشته، هما بلا شك يفوقانني ثراء، ودخلي من الصحافة وتأليف الكتب مجرد قطرة في بحر دخلهما اليومي، ومع ذلك يعتبر السباك نفسه «طبقة عاملة» ويناديني بلقب «سير»، وهو في سره يصفعني على قفاي عند مبادلتي فاتورته بحزمة النقود من فئة الـ50 جنيها، لأنه لا يتعامل بالشيكات (فاتورة نصف ساعة لإصلاح نظام التدفئة المركزية أضعاف ما أكسبه من نشر مقالين استغرقت كتابتهما من وقتي ثلاث ساعات وبحث معلوماتهما ست ساعات).

لذا فعندما صدرت صحيفة جديدة، أرهفت الطبقة الوسطى أسماعها وفتحت عيونها. الصحيفة الجديدة صادرة عن مؤسسة «الإندبندنت» التي أوشكت على الإفلاس لولا إسراع المليونير الروسي ألكسندر ليبدييف بشرائها (لتحميلها على «الإيفنينغ ستاندارد» التي توزع 750 ألف نسخة يومية مجانا، وتحقق أرباحا من الإعلانات لاحتكارها سوق الصحافة اليومية في لندن). الصحيفة الجديدة يحررها صحافيو «الإندبندنت» - التي تمثل أحد أهم منابر اليسار، بأجندة معاداة أميركا ومعاداة العولمة ومعاداة الإرث الحضاري للإمبراطورية، وإخضاع بريطانيا لسيادة الاتحاد الأوروبي، والترويج للمثلية الجنسية، والإيمان الأعمى بعقيدة البيئة والعمل على أن يقلد البريطانيون الصين بركوب الدراجات وهجر السيارات، مع المناداة بفرض عقوبات تتراوح بين المصادرة والحبس المؤبد لكل من تسول له نفسه قيادة سيارة، وغيرها من آيديولوجيات اللامعقول اليساري.

حملة إعلانات أحدث أباطرة الصحافة، وأصغرهم سنا، ليبدييف - ترويجا للصحيفة الجديدة - تؤكد على «حيادها». لكن أبناء الكار، أبدوا شكوكهم في حيادية صحيفة تحررها جماعة «الإندبندنت». فهل يمكن لطباخ «أسطى» في الأطباق النباتية أن يقدم لنا طبق «استيك» أو «روزبيف» لم نذق له مثيلا من قبل؟

اسم الصحيفة جديد، وحاذق، ومبتكر في عالم الصحافة التي ظلت، لأربعة قرون، تدور في الأسماء نفسها، سواء بالعربية أو الفرنسية أو الألمانية أو الإيطالية، لا تتغير «الزمن، أو التايمز، التلغراف، المراسل، الرسالة، الخبر، الأخبار، اليوم، الأيام، البوستة، النهار، الراية، المساء، المراقب، المحافظ، المستقل، الحامي، الحارس، الأمة، الوطن، الجديد» وفروعها، وأحيانا ما تحمل اسم البلد أو المدينة.

الصحيفة الجديدة، اسمها «i» الحرف الرابع عشر من الأبجدية الإنجليزية. الاختيار حاذق. فالحرف، يعني ضمير المتكلم «أنا» في زمن الأنانية والفردية ووضع النفس والمصالح الذاتية قبل أي اعتبار آخر. والحرف أيضا رمز لمراكز الاستعلامات ومكاتب إرشاد الضالين والسائحين، لأنه الحرف الأول من Information، التي تعني أيضا المعلومات. وقسم الكومبيوتر، الدينامو المحرك للمؤسسة أو الوزارة، يرمز له بالحرفين IT اختصار «information technology» (تكنولوجيا المعلومات). كما أن الاسم منطوقا يعني العين (eye)، وفي اللغة الإنجليزية يمكنك تطوير الاسم إلى فعل (من دون أن يهددك سوط المجمع اللغوي بمائة جلدة لتجاوزك سلطة الفقهاء)، فتصبح عبارة «to eye the events» (مراقبة الأحداث).

والفكرة، مثل إطلاق «الإندبندنت» (أي المستقل) عام 1986، وإعلاناتها استخدمت شعار «مستقلة التفكير: هل أنت كذلك؟»، واستقلالها هدد توزيع «التايمز» و«الغارديان»، لكن انحيازها لليسار هبط بتوزيعها اليومي من 475 ألفا عام 1991، إلى أقل من 182 ألف نسخة يوميا الشهر الماضي.

الصحيفة من القطع الصغير، وأخبارها مثل «take - away» (الوجبات السريعة)، أو ساندويتش بدلا من طبق الغداء، وتعليقاتها 50 كلمة للرأي، مما لا يسمح بطرح أدلة أو جدل للإقناع بالفكرة أو رفضها (افتتاحية «التلغراف» اليوم 500 كلمة تجادل بالوقائع والأدلة حول ضرورة رفض رئيس الحكومة ديفيد كاميرون ميزانية الاتحاد الأوروبي المبالغة في الإسراف). وهذا الإيجاز الشديد يسمح بالانحياز انتقائيا أكثر مما يضمن الحياد.

ولأن يوم كتابة هذه السطور هو عدد «i» الثالث، فلا يزال المحلفون مجتمعين حسب التعبير الإنجليزي؛ أي لا يزال الوقت مبكرا لإصدار الحكم.