البطالة وتحفيز الطلب العام

TT

تحاول الولايات المتحدة الأميركية ومعها تقريبا كل الدول الصناعية تحفيز الطلب العام في الاقتصاد للإسراع في دوران العجلة الاقتصادية لتوظيف الطاقات الإنتاجية المعطلة خاصة العمالة على الرغم من كفاءتها، إذ إن بقاء نسبة البطالة عالية (10%) سيكون مكلفا على الاقتصاد، وقد يؤدي إلى ركود مخيف إذا استمر لمدة طويلة.

وما تواجهه أكثر الدول الصناعية ينسحب على المملكة العربية السعودية، فمستوى (نسبة) البطالة فيها حسب الإحصاءات الرسمية عال نسبيا. والسؤال هو: كيف تستطيع المملكة معالجة هذه البطالة؟! هل تحاول اقتفاء أثر الدول الصناعية بزيادة الطلب أم ماذا؟.. لقد كتب الكثير في المملكة حول هذا الموضوع، لأنه من المواضيع والمشكلات التي يحس بها كل فرد في المجتمع. فالبطالة سوسة تنخر في عظم المجتمع من جميع النواحي النفسية والمادية، وهي معول هدم لتقويض استقرار المجتمع إن لم تعالج بالسرعة الكافية.

لنتفق جميعا أن مشكلة البطالة في المملكة لن تحل الحل الاقتصادي المقبول إلا بتضافر كل الجهود، ودعنا نبتعد عن اتهام بعضنا بعضا بالتقصير. فالتقصير حدث من قبل الدولة وكذلك القطاع الخاص.

ولحل هذه المشكلة:

أولا: لتنفذ الدولة القرارات والأنظمة التي أصدرتها في الشأن الاقتصادي خاصة ما يخص العمالة سواء الوطنية أو غير الوطنية. وأوضح مثال على ذلك هو تنفيذ قرار السماح للمرأة السعودية بالعمل في محلات الملابس الداخلية للنساء، والذي يقدر البعض أنه سيوظف عشرات الآلاف من النساء العاطلات. ولتحدد الدولة كذلك بكل دقة الأولويات الاقتصادية لتنفيذها بأسرع ما يمكن. لكن الدعوة لإيقاف الاستقدام فورا غير منطقية، والقول بتقنين الاستقدام في جميع النشاطات مقبول إلى حد ما.

ثانيا: إن اقتصادا يتمتع بهذه الوفرة المالية خاصة في القطاع الحكومي ليحتم على المرء أن يتساءل: لماذا توجد في الاقتصاد السعودي بطالة بهذا الحجم في حين أن ملايين العمال غير السعوديين يعملون فيه. فالحس الوطني، ناهيك عن الحكمة الاقتصادية، يفرض على المرء التعجب والاستنكار والمطالبة عاطفيا ومنطقيا بوجوب إيجاد الحلول السريعة للقضاء على البطالة الاقتصادية في السعودية (هي عبارة عن تخفيض نسبة البطالة إلى الحد الأدنى لأن نسبة بطالة تساوي صفرا هي هدف لا يتحقق أبدا مهما كان الاقتصاد مستغلا لكل طاقاته)، ومن هنا بدأت الاتهامات توجه خاصة إلى القطاع الخاص والتي بعضها حق وبعضها يوحي بمنطقيته لكنه باطل من أساسه.

كل عامل إنتاج سواء كان أرضا أو مالا أو إدارة أو عمالة يجب في النهاية أن يعطى الأجر (العائد) الاقتصادي الذي يتناسب مع إنتاجيته، وصاحب العمل الذي يبخس عامل الإنتاج أجره سيجد في يوم من الأيام أنه لا يستطيع أن يستمر في الاستغلال إلى الأبد، لأن عقابه سيكون عن طريق كفاءة عامل الإنتاج، ولن يعفيه من ذلك شيء مهما سرح من العمال.

فالعامل الجديد بعد حين سيشعر بالغبن، ويبدأ بالمؤامرة على صاحب العمل. وأنا على يقين أن أصحاب الأعمال يعرفون ذلك جيدا.

وكذلك علينا جميعا الاقتناع بأن صاحب العمل يجب أن يربح من جهده وتوظيفه لأمواله، وإن لم يربح فسيكون في نهاية المطاف من الخاسرين هو ومن معه من العمال وغير ذلك. وحين يردد رجل الأعمال أن شركته ليست جمعية خيرية فهو على حق، غير أننا نتساءل فقط إن كان في استطاعته التضحية ولو بنسبة بسيطة من هامش الربح السنوي لتوظيف ابن الوطن أولا. والمطالبة بهذه المعادلة لا تنطبق على القطاع الخاص فقط، بل يجب أن تنسحب حتى على المؤسسات الحكومية المنتجة مباشرة للبضائع والخدمات، مع كل إيماننا المطلق بأن صيانة كرامة الإنسان اقتصاديا هي في النهاية مسؤولية الدولة.

فإحلال العامل الوطني محل العامل الوافد يجب أن ينبع ويعتمد على المنطق الاقتصادي والحس الوطني معا، وأن تحدد الأولويات للإحلال بحسب أهمية النشاط الاقتصادي الذي يعتقد أنه المناسب. فكفى تضييعا للوقت والجهد في ما يخص العمالة المنزلية مثلا (هذا لا يعني فتح الباب على مصراعيه)، ودعنا نركز على قدرتنا على تدريب وتعليم العامل الوطني لإحلاله في النشاط الاقتصادي الأهم ومن ثم المهم، وكذلك دواليك، بالتعاون التام بين الدولة ورجال الأعمال من أول خطوة إلى المنتهى.

ولا أرى أي حرج لو دفعت الدولة حتى كامل الراتب لعدة أشهر للعامل السعودي لتوظيفه في المنشآت التجارية في الاقتصاد، لكن يجب على رجل الأعمال أن يصدق الله ونفسه بأنه جاد في إحلال العامل السعودي محل الأجنبي حين تتوافر الصفات الأساسية وليس التعجيزية في العامل السعودي. بهذه الطريقة نستطيع أن نبدأ الإحلال اقتصاديا، وعندها ليس لأحد عذر. أما رغبة البعض في الفرض فلن تنجح مهما حاول أي طرف فرض رأيه على الآخر. لأنه في النهاية لا يستمر في العمل من عوامل الإنتاج ويبقى إلا من يجلب إيرادا أكثر من تكلفته كحد أدنى.

ثالثا: ما ذكر أعلاه من اقتراحات، مثل تنفيذ الدولة لقراراتها، أو الإحلال، ذكر هنا وهناك في الإعلام السعودي. والذي يجعل حل المشكلة صعبا إلى حد ما هو أن بعض الأفكار الاقتصادية، مثل تحفيز الطلب العام في الاقتصاد والذي ذكر في المقدمة بالنسبة لأكثر الدول الصناعية، لا نستطيع السير فيه كلية في المملكة العربية السعودية نظرا لطبيعة البيئة الاقتصادية فيها.

فزيادة الطلب العام وحدها قد تكون ذات أثر سلبي في بعض النشاطات الاقتصادية، وقد تؤدي إلى نتائج عكس المتوخى وهو المساعدة في تخفيض نسبة البطالة في المملكة.

يعاني الاقتصاد السعودي من انخفاض نسبة خلق فرص عمل سنوية في النشاطات الاقتصادية القائمة، والتي يرغب أن يعمل بها العامل السعودي، مثل قطاع البترول والبتروكيماويات والقطاع المالي وغيرهما. ونظرا لعدم نجاحنا حتى الآن في تنويع القاعدة الاقتصادية («الشرق الأوسط» 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2010) فزيادة الطلب العام بأي وسيلة كانت ستقود، في بلد مستهلك لا يملك طاقات إنتاجية غير مستغلة ولا يملك الاكتفاء الذاتي في أكثر المنتوجات، إلى زيادة الواردات، وإلى زيادة التضخم أحيانا، وهذا ما نلاحظه بين الحين والآخر في السعودية. وما زيادة نسبة التضخم في هذه الأيام إلا برهان على ذلك، فليست كل زيادة في الطلب تقود إلى خلق فرص عمل لتوظيف العامل السعودي. لا بل إذا أخذنا استهلاك الطاقة في السعودية كمثال، خاصة المحروقات، فزيادة الطلب عليها تعتبر مصيبة على الاقتصاد السعودي الذي يكلف الدولة الشيء الكثير لإعانته.

إذن الحل الأمثل مع حلول أخرى مثلما ذكر أعلاه في أولا وثانيا هو أن تغير حكومة المملكة من سياستها الاقتصادية الكلاسيكية، وتبدأ فورا في الاستثمار مباشرة في إنشاء شركات حديثة في قطاعات قائمة أو جديدة لخلق فرص عمل مع أو من دون مشاركة القطاع الخاص. واتهام بعضنا للآخر لن ينفع العامل السعودي العاطل نظرا لأن طبيعة وأهداف القطاع الخاص بالذات تختلف جذريا عن طبيعة وأهداف القطاع العام مهما تطابقت أحيانا. في حين أن التضحية مطلوبة من جميع الأطراف، غير أن الدولة أقدر على ذلك بطبيعتها. وحين يقول منظر الاقتصاد الحر آدم سميث «لا يجتمع ثلاثة رجال أعمال إلا وتآمروا على المصلحة العامة» فهو يعني أن أهداف ومصالح القطاع الخاص بطبيعتها تختلف عن تلك بالقطاع العام.. وليس بسبب مؤامرة من القطاع الخاص.

إذن دعنا لا نضيع الوقت لابتكار حلول لبطالة تزداد نسبتها يوما بعد آخر. فحقا لا جديد تحت الشمس، والبطالة معضلة واجهها العالم منذ فجر التاريخ، وستبقى ظاهرة في المستقبل.

والدولة المحظوظة هي التي تستطيع أن تكيف الحلول المعروفة في التاريخ لبيئة اقتصادها. فليس صحيحا دائما أن السياسات التي نجحت في اقتصاد ما ستقود إلى نفس النتائج في اقتصاد آخر يختلف كثيرا في خصائصه. وعلم الاقتصاد لا يملك وصفات جاهزة لكل مكان وزمان. وها هما، أخيرا بعد خراب روما تقريبا كما يقال، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يعترفان بأن اليد السحرية في الاقتصاد الحر لا تحمي الاقتصاد من الانهيار ولا تقود إلى عدالة توزيع الثروات بالذات.

ولا يسع المرء، حقا، في هذه السنوات الأليمة من تاريخ الاقتصاد العالمي، إلا أن يتساءل ألما: من أدخل هذه الأفكار وأقنع هذه العقول في كلتا المؤسستين بأن علم الاقتصاد يمتلك وصفات جاهزة وحلولا سحرية تصلح لكل مكان وزمان؟

* وكيل وزارة التخطيط الأسبق وعضو الهيئة الاستشارية في المجلس الاقتصادي الأعلى في السعودية