المكون والمكنون والكُون!

TT

خلال الحرب الأهلية اللبنانية كانت أكثر المصطلحات شيوعا لوصف الفئات المتناحرة المتحاربة هي الميليشيات والأحزاب والطوائف. وفي التناحر الأهلي تتردد عبارات: الفئات والطوائف والأديان والقوميات، بل وحتى اللغويات مثلما الحال في التناحر البلجيكي بين الناطقين بالفرنسية والناطقين بالفلاميش (الهولندية).

لكن لغة السياسة العراقية منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003 أدخلت إلى قاموسنا السياسي مصطلح «مكوّن» وجمعه «مكونات». ولعل أكثر الساسة ترديدا لعبارة «مكونات الشعب العراقي» هو رئيس الوزراء المنتهية ولايته (من زمان) السيد نوري المالكي. فالسيد المالكي ردد عبارة «حكومة وطنية تمثل مكونات الشعب العراقي كافة» مئات – وربما آلاف - المرات منذ أن أصبح رئيسا للوزراء، وزاد استخدامها أضعافا مضاعفة منذ «انتهاء ولايته» - من زمان.

ومصطلح المكون مصطلح غامض يصعب فهم فحواه، لكنه إبداع ما بعده إبداع يضاف إلى لغتنا المبدعة في «حجي» السياسة، فمعروف أن كلمة مكون اشتقت من «كان» وقد تكون ابتدعت ترجمة لكلمة COMPONENT الإنجليزية، وغموضها يكمن في ضبابيتها؛ فلا هي تشير إلى الطائفة ولا القومية ولا تدل على اللغة ولا الدين.

وتتشابه كلمة مكون في اللفظ مع كلمتي «مكنون» و«كون» (بضم الكاف وتسكين الواو)، والمكنون هو الخافي الذي لا يظهر للناس، ويحتفظ الواحد بالسر مكنونا في صدره لا يبيح به، وتتردد الكلمة في أدبيات الغزل مرتبطة بالوجد والعشق والشوق التي تكمن مكنونة في صدر الحبيب حفاظا على سر محبوبته وخشية عليها من الفضيحة إن علم الناس بحبهما. ولعل أشهرها شعبية:

البارحة يوم الخلايق نياما

بيحت من كثر البكا كل مكنون

وللسياسة أسرارها ومكنوناتها. لكن الحديث عن تمثيل مكونات الشعب العراقي مسألة مفضوحة، فمن يرفع شعارها أحزاب دينية، والحزب الديني لا يمكن أن يكون شموليا يأخذ جميع المكونات في الاعتبار، لأنه إقصائي بطبيعته، ويستحيل أن يتخلى عن إقصائيته. خذ مثلا أحزاب إسرائيل الحاكمة التي تطالب بيهودية الدولة حصرا، أو حزب الله بلبنان الذي صادر قرار البلد - ويحاول مصادرة الرب سبحانه واحتكاره - أو حركة طالبان في أفغانستان وباكستان التي ترى في الشيعة شرا لا بد من التخلص منه، أو الحزب الجمهوري الإسلامي الحاكم في إيران الذي فرض مذهبية الدولة في دستوره.. والقائمة تطول، لكن الشاهد أن الحزب الديني - أيا كان - لا يمكن أن يتعايش مع المكونات الأخرى ما لم يتخل عن دينه السياسي.

في العراق حزب رئيس الوزراء «المنتهية ولايته» (من زمان) حزب طائفي بامتياز، يحاول فرض حكم الشيعة حصرا، وسيفشل تماما مثلما فشل صدام حسين في فرض حزب البعث حصرا لحكم العراق مستخدما العروبة تارة لضرب مناوئيه، والطائفية تارة أخرى لتصفية خصومه. لكن الأحزاب الدينية العراقية - كغيرها من الأحزاب الدينية - لم تع الدرس، إلى أن ينفجر المكنون ويحدث الكون.

والكون أو الكونة في لهجة شرق الجزيرة العربية والعراق هو المصيبة، أو المعركة، أو الغارة، وهو يختلف عن الكَون الذي يعني العالم.

وهنا يكمن الأمر؛ إن المتابع للشأن العراقي يشهد حراكا شبابيا عراقيا جديدا يتجاوز الطائفة والقومية ويتواصل بالإنترنت وبروح عراقية وطنية أصيلة، ويرى العراقي عراقيا - كائنا من كان - وهم قادمون وسيكونون بدلا من المكونات الحالية - أقصد السياسية منها. ويرون في تشكيل حكومة عراقية في عواصم الجيران من قبل المالكي - المنتهية ولايته من زمان - شحططة شامية ومرمرة خليجية وبهدلة مصرية و«طرقاعة» عراقية!

لا أعرف لماذا أرفض الاستسلام لمكونات العراق السياسية القائمة اليوم، وأتفاءل بشيء ما يكنه شباب العراق، بمعنى أنني أرفض الخضوع لما يتكون عليه العراق، وأراهن على ما سيكون عليه عراق الغد.