عندما تغيب المسؤولية

TT

ليس جديدا القول إن الوضع العراقي، بل والإقليمي، اليوم يمر بمرحلة شديدة الحساسية تتطلب قدرا عاليا من المسؤولية والحرص لتجنب الانزلاق إلى مزيد من الصراعات الفتاكة التي غالبا ما يذهب ضحيتها الأبرياء. غير أن الأيام الماضية حملت لنا سلوكيات تكشف عن غياب الإحساس بالمسؤولية وغلبة السلوك الغريزي على العقلانية.

لنبدأ من حكم إعدام طارق عزيز، فهو، من بين جميع الأحكام التي اتخذتها المحكمة الجنائية، قد أثار لغطا وتساؤلات واعتراضات، بل وتدخلات دولية. لست هنا بمعرض البحث في حيثيات القضية التي صدر بسببها هذا الحكم، ولكنني أعتقد أن عزيز على الرغم من قربه الشخصي من رأس النظام السابق لا يمكن أن يوضع بنفس الخانة التي يوضع بها رؤساء الأجهزة الأمنية والاستخباراتية. وسواء اتفقنا مع الدور الذي لعبه عزيز أم لا، فإننا ندرك أن رئيس النظام الذي كان يمثل أساس وجوده والمتحكم بمفاصله والمحدد لأدوار لاعبيه قد حوكم وأُعدم، وبالتالي فإن إعدام الأدوات لم يعد بذي قيمة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بشخص كان وزيرا لخارجية العراق زمنا طويلا وامتلك سجلا طويلا من المعرفة بدهاليز السياسة الدولية والإقليمية طوال تلك الفترة، وكان ذكيا بما يكفي ليحيا طويلا في ظل النظام السابق من دون أن يكون شديد الارتباط بجرائمه الكبرى ومن دون أن يكون محميا بظهير عشائري أو عائلي أسوة ببقية أركان النظام.

كان لإعدام رأس النظام قيمة رمزية (إيجابا وسلبا) لكننا لم نحصد من تجربة صدام حسين الحافلة أي عبرة مهمة، أو اعتراف ذي مغزى، فقد ظل الرجل أسير أوهامه التي صنع بعضها وصنع بعضها الآخر صنائعه ومرتزقته، فغادرنا من دون أي اعتراف أو شهادة تاريخية مهمة باستثناء وثائق تحقيقية أجراها مع محقق من الـ«إف بي آي» ليست ذات أهمية تاريخية بالنسبة للعراقيين أنفسهم؛ لذلك أضم صوتي للكاتب العراقي عبد الخالق كيطان الذي نشر مقالة بالمعنى ذاته وأقول: إن ما قد نجنيه من كتابة طارق عزيز لمذكراته أكثر مما سنجنيه من إعدامه، فالانتقام عند القدرة على تجنبه هو أقل الأفعال مسؤولية في ظل وضع يتطلب القدر الكثير من المسؤولية والتعقل.

النموذج الثاني كان الكيفية التي تصرفت بها إحدى القنوات الفضائية مع الوثائق التي نشرها موقع «ويكيليكس»، لتقديم نسختها الجديدة عن الوضع العراقي بطريقة تحاول تأجيج الطائفية. هذا النوع من الإعلام، ربما أكثر من خطابات بن لادن والظواهري، وفر التبرير الآيديولوجي والنفسي للانتحاريين الذين توافدوا إلى العراق وأصبحوا أداة بيد منظمات إرهابية مجهولة المصدر والهوية ولأجهزة مخابرات تعمل تحت أستار مختلفة لتدمير القليل مما تبقى في هذا البلد باسم المقاومة.

الدعوة إلى العنف وتبرير القتل وصلا إلى النتيجة المتوقعة، أي: الصدام بين الجماعات المسلحة التي كانت تسوق في الإعلام بوصفها مقاومة، وبحلول عام 2006 شهد العراق أول حرب أهلية بتاريخه الحديث، سقط فيها عشرات الآلاف من السنة والشيعة، وهجر فيها مئات الآلاف من المناطق السنية والشيعية، يوميا كان يتم العثور على مئات الجثث مجهولة الهوية لمواطنين في مناطق سنية وشيعية ومختلطة، و«الاحتلال» تحولت قواته إلى دور فض الاشتباك والحكم بين العراقيين.

واليوم هذا الإعلام نفسه يعيد تقليب الوضع العراقي بأبجدية جديدة، باسم الوثائق التي نشرها موقع «ويكيليكس»، يريد أن يكشف «المستور» الذي كان لا يريد رؤيته سنوات الخراب، حيث لعب دورا كبيرا في تبريره والتنظير له، لكنه مجددا يريد أن يقرأ في الوثائق ما يعجبه، كما أراد أن يقرأ في الواقع العراقي ما ينسجم مع أجندته، محاولا تأليب طرف ضد آخر، ورمي اللوم على طرف دون الآخر، فقدم قراءة انتقائية تحريضية تضخم أشياء معينة وتتجاهل أخرى.

لا أعرف كثيرا عن الجمهور العربي وتفضيلاته، ربما بات هذا الجمهور أكثر فطنة لإدراك «المستور» خلف منطق كاشفيه، أما في العراق فلم يعد لخطاب هذا الإعلام تأثير مهم بين الناس، فالعراقيون أنفسهم الذين عاشوا سنوات المحنة وفقدوا أحبابهم وأصدقاءهم يعرفون القصة الحقيقية جيدا، وهي القصة التي لن يجد لها «ويكيليكس» من ينشرها، أو فضائيات تنفق الملايين لإبرازها. مع ذلك صار الناس يدركون جيدا أنك لا يمكن أن تكون ضد الاحتلال وتلجأ إليه لحمايتك في الوقت نفسه، ولا يمكن أن تكون ضد العنف وتحرض عليه في الوقت نفسه، ولا يمكن أن تكون مع حقوق الإنسان في مكان ما وتتجاهل تلك الحقوق في مكان آخر، ولا يمكن أن تكون ضد التعذيب عندما لا يعجبك وتتستر عليه عندما يعجبك، ولا يمكن أن تكون ضد الوجود الأجنبي في منطقة تبعد عنك آلاف الكيلومترات، وتسكت عليه وهو يبعد عنك ببضعة أو بمئات الكيلومترات. هذه التناقضات تجعل كل من يسقط فيها فاقدا للمصداقية، وتساعد بانكشاف مستوره كلما أصبح الناس أكثر وعيا في تدقيق ما يقوله الإعلام؛ ذلك أن الأخير ليس دائما أداة لكشف الحقيقة، بل هو في كثير من الأحيان أداة لطمسها.