الحياة عندما تتحول إلى أوراق غاشة ومغشوشة

TT

ليلة الافتتاح لعرض مسرحي غنائي راقص، امتلأت القاعة بالمتفرجين، الحجز في الشباك منتعش لأسبوع مقبل، البطلة نجمة العرض ترسل وصيفتها لاستدعاء المنتج الذي جاء على عجل، ملامح وجهها غطتها طبقة من الماكياج والاستياء، بكل ما لديه من رقة وعذوبة قال لها: تحت أمرك يا ست الكل.. اؤمري، تحت أمرك.

قالت باستياء: انت ظلمتني في العقد بتاعي.. ضحكت علي.. مش أنا اللي آخد المبلغ ده.

رد عليها بلطف: أنا تحت أمرك يا ست الكل.. بكرة الصبح إن شاء الله هنتكلم، وربنا يسهل.

قالت بصرامة: ربنا يسهل الليلة دي.. أنا عاوزة ضعف الأجر اللي مكتوب في العقد.

بمقاومة ضعيفة قال لها: هو حضرتك جاية تكلميني في أجرك قبل الافتتاح بدقيقة.. هي العقود عملوها ليه؟ ومع ذلك ولا يهمك.. إن شاء الله خير.. هتكوني مبسوطة.. ولا يهمك.

تحولت إلى نمرة وقالت بشراسة: بتقول لي العقود عملوها ليه؟ عملوها عشان تتلغي لما تكون مش عجباني.. فاهم؟ أي.. أي.. الحقوني.. اطلبوا لي الإسعاف.. ودوني المستشفى.

لقد هاجمتها آلام الزائدة الدودية بضراوة، وانتقلت إلى المستشفى. انتهى العرض المسرحي قبل أن يبدأ، وخرج الناس ليصطفوا أمام شباك التذاكر ليستردوا فلوسهم، وفي الصباح كانت النجمة معها ورقة من المستشفى موقعة ومختومة بأنه قد أجريت لها عملية الزائدة الدودية؛ حيث كانت على وشك الانفجار، مما هدد حياتها. الاختيار الوحيد المتاح أمام المنتج كان هو السكوت وتحمل خسارته في ألم بعد أن انفك طاقم الممثلين وذهب كل منهم إلى حال سبيله نتيجة لرفض باقي النجمات لعب الدور. طبعا النجمة اختفت من السوق بعد أن اكتشف المنتجون أن لها عدة زوائد دودية تلتهب فجأة، مما يتطلب إجراء عملية في مستشفى متخصص في إصدار الشهادات المضروبة أو المغشوشة.

لا أهمية للعقود في الفن والنشر والثقافة، وأحيانا في السياسة. ما يجعل من الورقة عقدا ملزما ليس توقيع الناس عليها، بل درجة اعتبار الذات التي تدفع الإنسان إلى احترام تعهداته والوفاء بها مهما كلفه ذلك من مشاق أو خسارة.

عقد آخر أو ورقة أخرى، تعاقد نجم الكوميديا الصاعد على العمل في مسرحية مقابل 5% من صافي الإيراد اليومي، ونجح العرض، بعد أيام مر على المنتج وقال له وهو يقف على الباب:

مساء الخير.. أنا من بكرة بـ7%.. سلام عليكم.

النجم لم يهدد بشيء، ولكن كان من السهل على المنتج أن يدرك أنه إذا لم يستجب لطلباته فلن يأتي في الغد ويرسل بدلا منه شهادة طبية مختومة تقول إنه مصاب بفيروس غريب في البنكرياس يحتم البقاء في السرير حتى نهاية الموسم المسرحي.

تكرر الموقف نفسه عدة مرات إلى أن ارتفعت نسبته في شهر واحد إلى 25%، وكان لا بد من قرار سريع لحماية المنتج من الإفلاس، جاء النجم في موعده ليجد المسرح مغلقا، لقد انتهى الموسم المسرحي للفرقة وعلى الممثلين الحصول على مستحقاتهم من الحسابات.

لنرجع إلى الوراء عدة سنوات في مجال السينما، كانت الضرائب مرتفعة، وللإفلات منها قرر الممثلون والمنتجون اللجوء إلى اختراع جديد هو (جوة العقد) و(برة العقد) أي يكتب العقد بنصف المبلغ المقرر دفعه والباقي يحصل عليه الممثل بغير التوقيع على أوراق من أي نوع، وأنا أعتقد أن هذا النوع من التعامل أو التحايل مشتق من التصوير السينمائي ــ خارجي وداخلي أعتقد أن نظام (برة العقد وجوة العقد) كان السبب الرئيس في دمار الإنتاج السينمائي في مصر؛ نظرا لأنه من المستحيل النجاح في أي مشروع تجاري بدفاتر خربة وذمم أكثر خرابة.

ننتقل إلى مجال آخر من ميادين الإنتاج الفكري، قال لي مدير النشر في التليفون: عرفنا أنك انتهيت من كتابة الكتاب الفلاني.. ونحن نريد أن ننشره.

رحبت على الفور وحددت معه موعدا للقاء، أعطيته الكتاب وسألته: هنكتب العقد إمتى؟

فقال لي بفخر وكبرياء: نحن لا نتعامل بالعقود، نحن نتعامل بالكلمة.

هو يعمل مديرا للنشر في مؤسسة صحافية كبرى، بالتأكيد هو يمزح معي ربما استنادا إلى أنني أكتب الفكاهة أحيانا، غير أنني عندما تفرست في ملامح وجهه وجدته جادا تماما، وبالفعل اتفقت معه على الحصول على 10% من سعر الغلاف بغير كتابة أي عقد، وبعدها تغير المنهج، جاء آخرون توقفوا عن التعامل بالكلمة ولجأوا إلى العقود، في المرة الأولى بغير عقد استطعت الحصول على مبلغ معقول، بعد ذلك في وجود العقود حصلت على عُشر استحقاقي عن كتبي التي نشرتها عندهم. ومع الأيام حدث ما كان يجب أن يحدث، تحولت إدارة النشر إلى خرابة، وهذا أمر طبيعي، فعندما تنشغل بالرغبة في أكل حقوق الناس وتغطية ذلك بأوراق غاشة ومغشوشة، فمن المؤكد أنك لن تهتم بحماية نشاطك وتنمية عملك. هل هناك أمل في حصولي على حقوقي منهم، أن أقاضيهم مثلا أو أشكوهم للجهاز المركزي للمحاسبات أو أبلغ فيهم النائب العام؟

الإجابة: كلا.. هي معركة خاسرة في كل الأحوال. بالتأكيد سيأتون بشهادات مختومة ومعتمدة تثبت أنني وزعت في وجه بحري خمس نسخ، وثلاث في صعيد مصر، ووزعت نسخة واحدة في الخليج العربي بما فيها السعودية، ونسختين في المغرب العربي، ونسخة في سورية، وأن النسخ التي شحنت إلى العراق انفجرت فيها سيارة مفخخة، وليس ببعيد أن يؤيدوا أقوالهم بشهادة معتمدة من إدارة النشر والتوزيع في الأمم المتحدة.

من أهم أقوال مكيافيللي في كتابه «الأمير»: لست مهتما بفساد الأمير، سيأتي أمير آخر ويصلح الأمور. الأمر الخطر حقا هو أن تفسد الناس، هنا يتطلب الأمر أميرين صالحين متعاقبين يحكمان لثمانين عاما، وهذه صدفة صعبة المنال، عندما يدب الفساد في الأمة، تفقد حريتها ويصبح في مقدور أي أحد الاستيلاء عليها.

عندما تتحول الأوراق المختومة المعتمدة الغاشة والمغشوشة إلى بديل عن الحياة ذاتها، فهذا معناه أننا نسير في سكة الندامة، من المهم للغاية أن نحارب الفساد في أي فعل فاسد، وتصور بعض الكتاب أن الفساد عنوانه السلطة وحدها يمنعنا من رؤيته وهو يعشش في عقول وقلوب معظمنا. لقد استولت العصابات في مصر على عشرات ألوف أو مئات ألوف الفدادين في كل أنحاء مصر بغير استخدام لسلاح الترويع والتخويف كما كان يحدث في العصور الوسطى، بل باستخدام الأوراق والأختام الغاشة المغشوشة، كل من يقوم بتزوير وثيقة من أي نوع، عليه أن يقضي بقية عمره في السجن.