ربما الضحايا يستحقون ذلك!!

TT

الضجة الكبرى التي أثيرت حول الوثائق التي سربها موقع «ويكيليكس» التي تكشف جرائم الحرب الأميركية على العراق، تثير في النفس مشاعر متناقضة. أولها الشعور بالامتنان لمجموعة من أصحاب الضمائر الحرة الذين يخاطرون بسلامتهم وحياتهم لينصفوا ضحايا لا يمتّون لهم بصلة لا دينيا ولا عرقيا.

ولكن الشعور المرافق لهذا، هو أن كشف الحقيقة يفترض أن يكون مهمة الإعلام «الحر» الأساسية. فلماذا ننتظر كل هذه السنوات تلاطمنا أمواج تسونامي من المقالات المضلّلة التي تنشر في أمهات الصحف والقنوات «الحرة» بانتقائية تطمس حقيقة جرائم الحرب أو تبررها وتبذل جهودها للتغطية على مجرمي الحرب، والجلادين فقط لأن الضحايا عرب مسلمون!

لقد كتبتُ غير مرة، أن مقارنة ما يجري في واقعنا من أحداث، مع ما أقرؤه عن مجريات هذه الأحداث في الإعلام الغربي «الحر» تدفعني إلى القول بأنه لا يوجد مبرر لقراءة ما يكتبون وينشرون عن الأحداث هنا، ووصلني أكثر من رد من قراء غربيين يقولون: «في ضوء ما تكتبين كيف نثق بعد اليوم فيما نقرؤه في صحفنا المحلية».

والأمر الأغرب هو أنه حين حدث ذلك انبرى مسؤولون أميركيون وبريطانيون ليقولوا ضمن تبريراتهم المكرّرة: «إن الكشف عن هذه الوثائق يعرّض أمننا الوطني للخطر ويعرّض أمن جنودنا للخطر».

والأكثر غرابة أنه لم تدعُ أي جهة قضائية في أي من الديمقراطيات الغربية المتورطة حكوماتها بجرائم الحرب على العراق للتحقيق في هذه الجرائم.

وبالطبع لم يجتمع مجلس الأمن ليدين هذه الجرائم، وهو الذي أصدر القرار بشنّ الحرب الأميركية على شعب العراق ووضع هذا الشعب على البند السابع.

لا شكّ أن هذا التعامل المتحيّز ضد الضحايا من المدنيين العرب والمسلمين في العراق وأفغانستان اليوم، كما في فلسطين منذ أكثر من ستين عاما، يمثّل في جوهره عنصرية متخلفة لا تأبه بأرواح الضحايا من غير الغربيين، مهما كانت بشاعة الجرائم المرتكبة ضدهم، وتعبّر عن حرصها على حياة وحقوق الإنسان فقط إذا كان الإنسان غربيا. وقد حضرنا وقرأنا مسرحيات محاكمة جنود أميركيين اتخذوا من تعذيب المدنيين العراقيين، وجمع أصابع ضحاياهم الأفغان تسلية لهم، ومع ذلك لم تتم إدانتهم بعقوبة تزيد على عقوبة سارق دراجة هوائية في واشنطن! بينما تكرس المحاكم الأميركية العسكرية كل قواها لتحاكم الطفل عمر خضر الذي اعتقل في غوانتانامو وهو بعمر الخامسة عشرة بتهمة قتل جندي أميركي في أفغانستان؟ وكلنا نعرف أن كل جندي أميركي يقتل العديد من المدنيين الأفغان العزّل، وخاصة الأطفال والنساء، والبعض يأخذ صورا لضحاياه ليتباهى بجرمه، والبعض الآخر يجمع آذانهم، ويقطع أصابعهم للذكرى، أو للتباهي أمام أقرانهم. وفي هذا الصدد أرى أن ما نقله يوآف زيتون في جريدة «يديعوت أحرونوت» (23 أكتوبر/ تشرين الأول 2010) عن موقف الجنود الإسرائيليين من المدنيين الفلسطينيين، ينطبق تماما على موقف الجنود الأميركيين والغربيين من المدنيين العزّل في العراق وأفغانستان وباكستان، حيث قال مقتبسا كلام فنانين إسرائيليين زاروا الضفة الغربية ليطلعوا على الواقع هناك: «لا يفهم الجنود كم هي وحشية تصرفاتهم، فهم ينظرون إلى الفلسطينيين وكأنهم أشياء، أو صراصير. هذا جيش شرير». وأضاف آخر: «إنهم يرون كل الشعب الفلسطيني كإرهابيين محتملين».

لقد قال الرئيس الأميركي ريغان مرة: «إذا كنتم تريدون أن تعرفوا ما هي الشيوعية فزوروا جدار برلين»، وأقول اليوم إذا أردتم أن تعرفوا العدالة الغربية فزوروا معسكر غوانتانامو؟! وإذا كنتم تريدون معرفة جوهر الديمقراطية الغربية فانظروا إلى وثائق «ويكيليكس»! وإذا كنتم تشكون في نظرية المؤامرة، فاقرأوا كتاب «في سر الرؤساء» لمؤلفه الفرنسي فنسان نوزي، والذي يعرض فيه وثائق سرية فرنسية تؤكد حقيقة التآمر على سورية ولبنان في السنوات التي سبقت وتلت اغتيال الحريري.

جريدة «الإندبندنت» البريطانية كتبت في 24 أكتوبر 2010 «أن الكثير مما نشرته وثائق ويكيليكس كان معروفا من قبل». إلا أن أحدا من المسؤولين البريطانيين والأميركيين لم يُعر أي اهتمام لما كان ينشر آنذاك، لأنّ الحرب كانت مخططة لأسباب تختلف جذريا عن الأسباب المعلنة.

وكما قال بيتر بيومونت في جريدة «الغارديان» (25 أكتوبر 2010)، فإن رد الفعل الغربي حين سرقت آثار العراق، هو أن هذا «مفهوم» وحين بدأت الجثث تظهر بعد سقوط بغداد بدأ تصنيف الضحايا كـ«بعثيين سابقين» أو «إرهابيين محتملين»، وكان الإيحاء من كل ما كتب هو أن الضحايا ربما «يستحقون» الموت جزافا! ولم يقلق هذا الأمر أحدا في الغرب، ولا حتى الإعلام الغربي «الحر»، فقتل المزيد من العرب هو هدفهم غير المعلن.

الكل يعرف عن حرب الإبادة التي يشنها التحالف الأميركي ضد المدنيين العرب، ويكتبون عنها، ويتباهى بها المجرمون دون خوف من عقاب، ها هي أميرة هاس تكتب في جريدة «هآرتس» (24 أكتوبر 2010) عن المجزرة التي ارتكبها قادة الجيش الإسرائيلي في غزة 2009.

تقرير غولدستون حدد الجرائم والمجرمين، وطالب بمحاكمتهم، أما رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي الجنرال غابي أشكينازي فإنه يعترف أمام لجنة «تيركل» بأنه «يوافق تماما ودون أي تحفظ على طريقة سيطرة الجنود الإسرائيليين على أسطول المساعدات الذي كان متوجها إلى قطاع غزة»، أي إنه يتفاخر بإعدام المتطوعين الأتراك الأبرياء العزل بدم بارد ومن مسافة قريبة جدا برصاصات في الرأس والصدر من قبل جنود إسرائيليين يحميهم طغاة «العالم الحرّ» وإعلامه «الحرّ» الملطخة أياديهم وأقلامهم بدماء المدنيين.

ونتنياهو المتورط بمجزرة قانا، يقتل المدنيين العزل بجريمة فرض الحصار على المدنيين في غزة، وفي جريمة التطهير العرقي المتمثلة بتهويد فلسطين.

نانسي شيبرهيوز تنشر في 25 أكتوبر 2010 في «كاونتر بونش» تقريرا مطولا بدأت فصوله قبل أن ينشر الصحافي السويدي دونالد بوستروم عن انتزاع الإسرائيليين أعضاء من أجساد الفلسطينيين والمتاجرة بها. وتقول هيوز: «رغم كل ما نشرت من تقارير موثقة إلى حدّ اليوم لم يعترفوا أو يعاقبوا أو يصححوا الإساءات الخطيرة لحقوق الإنسان الطبية في إسرائيل».

ممثلة حكومة أوباما لدى مجلس الأمن السيدة رايس تتهم سورية «بزعزعة استقرار لبنان لأنها تمد حزب الله بالسلاح»، ولكنها لا ترى القنابل النووية التي زوّدت بلادها حكومة المتطرفين اليهود في إسرائيل، ولا ترى المحاكم الإسرائيلية وهي تأمر بهدم مئات المنازل في القدس، ولا ترى الإسرائيليين وهم يقتلون يوميا العشرات من الفلاحين والأطفال العزّل في فلسطين؟ وهي لا ترى المستوطنين المسلحين يدهسون الأطفال الفلسطينيين، ويحرقون أشجار الزيتون، والمساجد والكنائس، ويسرقون من الفلاحين الفلسطينيين حصادهم، ويعتدون عليهم في بيوتهم وعلى أسراهم في معتقلاتهم؟ وهي لا تعرف أبدا عن أسلحة الدمار الشامل أو القنابل العنقودية التي زوّدت حكوماتها المتعاقبة إسرائيل بها؟! شعور رايس وأمثالها هو أن «هؤلاء الضحايا العرب المسلمين طبعا يستحقون ذلك».

لقد ساهمت ويكيليكس مشكورة في تسليط الأضواء على الجرائم «التي يعرف عنها الجميع»، ولكن من سيحاسب الطغاة والقتلة الذين يتربّعون على قمة السلطة؟

إن ردود فعل المتورطين بجرائم الحرب، تؤكد أنهم يؤمنون «أن الضحايا العرب المسلمين يستحقون ذلك».

إن كلّ المتورطين بارتكاب الجرائم ضد الإنسانية في فلسطين والعراق وأفغانستان وباكستان، يعبّرون عن وحدة صفّ وهدف، فهل يتنبه الضحايا ويسارعون إلى توحيد مواقفهم ومواردهم لصدّ الأخطار الحقيقية والتي تهدد وجودهم نفسه؟