مفترق طرق لباراك أوباما.. وأزمات أميركا والعالم

TT

«الليبراليون يتهموننا دائما بالعمل على كبت أصواتهم.. وأنا أقول: نعم فلنكبتها!» (آن كولتر)

المسألة دائما نسبية، ثم إن تصرفات الليبرالية الأميركية تساعد على تأكيد ذلك الانطباع بأن لا مكان لـ«اليسار» في الولايات المتحدة. ولكن، في الحقيقة، ووفق مقاييس أقوى دول العالم وأغناها، توجد فوارق جدية بين ما يمكن وصفه بـ«اليسار» الليبرالي و«اليمين» المحافظ. والمشاعر العدائية المتبادلة بين الجانبين تظهر في كل مناسبة تطرح فيها قضايا حساسة تمس حياة المواطن والمجتمع.. وهذا ما حصل عبر فترات عديدة من عمر البلاد.

أصلا، كان جون ريد، الصحافي الأميركي المتخرج في جامعة هارفارد واليساري الملتزم، أول من أرخوا «الثورة البلشفية» بكتابه الشهير «عشرة أيام هزت العالم» (صدر عام 1919)، ولقد دفن بعد وفاته في جدار الكرملين مثل كبار قادة الاتحاد السوفياتي. وعندما اجتاحت موجة «المكارثية» الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية اضطهد عدد كبير من المثقفين والأكاديميين ونجوم السينما والمسرح الأميركيين التقدميين، واضطر بعضهم للانتقال إلى أوروبا حيث عاشوا، وبعض منهم استقر فيها ولم يعد إلى أميركا.

ومع أن الهم الأساسي عند الأميركيين بعد عقود قليلة من تأسيس جمهوريتهم الناشئة تركز على التمايز في النظرة إلى طبيعة «الاتحاد» الذي جمعهم، ومعه شكل العلاقة بين الحكومة المركزية وحقوق الولايات، واستمر حتى الثلث الأول من القرن العشرين، فإن الثلث الأخير من القرن العشرين أفرز تحديدا واضحا للانقسام «اليساري - اليميني».

في الماضي كان الحزب الجمهوري هو القوة الضاغطة العاملة من أجل حكومة مركزية قوية، بينما كان الحزب الديمقراطي صوت المؤمنين بحقوق الولايات والطبيعة «الفيدرالية» للدولة. وفي حين أتاحت هذه الطبيعة للحزب الجمهوري في بلد رأسمالي غني أن يحافظ على عقائديته وبراغماتيته، كان تنوع القاعدة الشعبية – تبعا للولايات ومكوناتها المختلفة – عنصرا أسهم حتى الآن في شمولية الحزب الديمقراطي وهشاشته الداخلية في آن معا. وبالتالي، ظل الجمهوريون مرتاحين عموما بتبني خيار اليمين إبان «الحرب الباردة» على الرغم من تراجعهم التدريجي في ولايات الشمال الشرقي والشمال الأوسط، القريبة إلى الليبرالية الأوروبية اجتماعيا وثقافيا، بينما تمزقت كتلة الديمقراطيين في ولايات الجنوب بعدما وقف «ليبراليوهم» الشماليون بقوة وراء «حركة الحقوق المدنية» المناوئة للعنصرية.

ثم مع تصاعد التيارات الأصولية البروتستانتية اليمينية، وعلى رأسها «الأغلبية الأخلاقية»، اندفعت هذه التيارات من منطلقات محاربة الشيوعية والدفاع عن «مسيحية» أميركا والاقتصاد الحر ومكافحة الإجهاض والتسامح الجنسي والعرقي، لدعم الحزب الجمهوري، ومن ثم، فرض برامجها السياسية عليه. وفي المقابل، صار الحزب الديمقراطي، بـ«خيمته» الواسعة الفضفاضة والهشة، الملاذ الطبيعي لمن يقف مع التنوع والتسامح وتقبل الرأي الآخر.. ولكن في تركيبة هلامية تفتقر إلى الانسجام المصلحي الراسخ. بكلام آخر، ربما يكون الديمقراطيون أكثر عددا من الجمهوريين في أميركا اليوم، لكن نسبة التوافق بينهم على الأولويات أقل، ومن ثم، فإن المحفز للتجييش والمشاركة السياسية الانتخابية أضعف بكثير.

واليوم، هذه بالذات هي المشكلة التي تواجه الرئيس باراك أوباما في أول انتخابات نصفية، وأول اختبار انتخابي يواجهه بعد انتصاره التاريخي قبل سنتين.

لقد عجز أوباما، رغم نياته الصادقة، عن تكوين محفز عملي يجيش القاعدة الجماهيرية لحزبه ويدفعها نحو مراكز الاقتراع في ظل أزمة اقتصادية حادة وموروثة تحتاج معالجتها إلى فترة زمنية تزيد على 24 شهرا في مجتمع استهلاكي لا يريد أن يصبر، وسياسة خارجية مترددة ومرتبكة تحاول أن ترضي كل أطراف النزاعات.. وهذا، طبعا، مستحيل.

الديمقراطيون مهددون خلال الساعات المقبلة بفقدان غالبيتهم في مجلس النواب، وسيخسرون مقاعد في مجلس الشيوخ قد تؤدي، أو لا تؤدي، إلى فقدانهم السيطرة عليه أيضا. إلا أن الانتصار الجمهوري، بصرف النظر عن حجمه، قد يكون أشد إيلاما للمجتمع الأميركي والعالم منه لباراك أوباما نفسه. فهو سيأتي تحت رايات قوة يمينية متطرفة هي تيار «حفلة الشاي» التي ستعمل على تعطيل جزء كبير من سياسات الرئيس الديمقراطي، لكن بروزها واشتداد وطأتها قد يفيدانه على المدى الأبعد إذا أحسن استغلال شططها، لأنها ستوفر له فرصة تحميلها تبعات أي فشل يتحمل اليوم تبعاته منفردا.

نعم، ربما من مصلحة أوباما بروز هذا «البعبع» المتطرف.. لكن على الأميركيين، ونحن أيضا، دفع الثمن، على الأقل لمدة سنتين.