جدل.. لا فلسفة

TT

رفض فرانسيس بيكون، منتصف القرن السادس عشر، أن يسلم بما قبله جميع الفلاسفة حتى ذلك الوقت: أن الفلسفة اليونانية هي أم الفكر وأن أفلاطون وأرسطو أبواه. من سجنه، الذي دخله بسبب تراكم الديون الناتجة عن بذخ غير منطقي، حاول بيكون أن ينقل الفكر الإنساني إلى مرحلة أكثر اعتمادا على العقل. كانت اليونان، بالنسبة إليه، حضارة قديمة شاخت ولم يعد من المسموح البناء على أفكارها وخلاصاتها. وكان أرسطو وأفلاطون متأملين ماهرين وفصيحين، لكن دون علوم ودون معرفة بالطبيعة، التي كان اليونانيون قد عينوا لها آلهة وتركوا لكل منها مسؤولية في الربيع والمطر والعواصف.

لم يقبل بيكون أفكار المدرسين، أو المدارس، أو المعلمين اليونانيين الكبار، بل حاول نقضها. لم يسع أفلاطون وأرسطو إلى الحقيقة والمعرفة بل إلى الغلبة في الجدل. وهذه عادة سفسطائية لا ينتج عنها سوى السفسطة. إذن، لا بد من البحث عن الحقائق والمقاييس، في زمن أكثر حداثة. منتصف القرن السادس عشر وعصر الملكة إليزابيث التنويري.

يا لها من مصادفة في تاريخ العصور. أن ينتمي بيكون وعزيزنا وليم شكسبير إلى عصر واحد. ثم، ثم، ما هذه البريطانيا التي سيطرت امرأتان على كل عصورها الفخمة: إليزابيث وفيكتوريا. تصور أن ينسب رجل مثل شكسبير، وليم شكسبير هذا، مشرد مسارح لندن وسيد الشعراء الإنجليز لا قبل ولا بعد، ينسب، بكل مسرحياته، وأشعاره وأبطاله الغر، هاملت، ماكبث، عطيل، وروميو صاحب جولييت الإيطالية الأرستقراطية، ينسب إلى عصر امرأة: شكسبير، علامة العصر الإليزابيثي. وأما فيكتوريا فدام حكمها ستين عاما، بحيث لم يبق أحد إلا ونسب إلى عصرها: الجغرافيون والمستكشفون والبحارون ورؤساء الوزراء الكبار وأميرالات البحرية الجبارون. أجل، أجل، وكبار الكتاب وكبار المهندسين وكبار المخترعين وكبار الصناعيين وكبار الصحافيين. ذهبيا أم ماسيا، كان ذلك العصر؟ مسكينة إليزابيث الثانية، فقد تضاءلت في أيامها العصور، وضاقت الفلسفة لولا أنها لحقت قليلا ببرتراند راسل. ولا فلاسفة في هذه الأيام. فقط دارسون يعيشون على أفلاطون وبيكون وديكارت. مهنة شاقة حقا.