من عجائب الاختراقات

TT

من عجائب الاختراقات الأمنية أن تعجز أقوى دولة في العالم عن حماية وثائقها الأمنية والعسكرية المصنفة بدرجات كتمان سرية، على الرغم من وجود نحو خمسة عشر جهازا أمنيا تتمتع بقدرات غير متاحة لأجهزة دول أخرى. فليس معقولا أن تكون مثل هذه الوثائق في متناول الجميع بهذا الكم الهائل، وتقف الأجهزة الأمنية ومؤسسات البيت الأبيض في حالة ذهول وشجب لا أكثر.

ومن غير المعقول مجرد التفكير في احتمال تسريب الوثائق بقرار من المؤسسات الرسمية الأميركية، لأن نشرها يؤثر تأثيرا خطيرا على مهمات القوات المسلحة وأجهزة الأمن والمخابرات الأميركية، ويجعل الأشخاص الذين يريدون التعامل معها يراجعون أنفسهم ألف مرة قبل الإقدام على خطوة كهذه. فالعمل مع المخابرات - عسكرية كانت أو مدنية - يأخذ دائما الصفة السرية، لمتطلبات معنوية وسياسية وأمنية. وأي خرق للصفة السرية يعرض العملاء لمخاطر كثيرة.

سجلت صفحات التاريخ مواقف وعمليات استخبارية كبيرة كانت مصدر حسم كبيرا في مسارات الحروب. فقد تميزت الاستخبارات البريطانية بقدرات هائلة، وحققت نجاحات مذهلة ساعدت في كسب الحرب العالمية الثانية. وتمكنت الاستخبارات العراقية من تحقيق اختراقات مذهلة أيضا أسهمت جديا في حسم حرب السنوات الثماني مع إيران. إلا أن التاريخ لم يسجل كشفا بهذا الكم الفظيع من الوثائق، عدا حالات سقوط الدول كما حدث بعد سقوط بغداد. فما سر موقع «ويكيليكس»؟ هل تمكن الموقع بقدراته الذاتية من تنفيذ أكبر عملية قرصنة إلكترونية ووصل إلى ملفات الحرب الأميركية؟ إذا كان الجواب بنعم، فلن يكون مستحيلا تمكن قراصنة الكومبيوترات من إحداث التباسات تتسبب في حرب نووية مدمرة تزال فيها مدن عن وجه الأرض. فخلال أسبوع واحد نشر خبران عن خطأين شنيعين، هما بقاء لوحة الأزرار النووية الأميركية مفقودة لعدة أشهر في زمن الرئيس بيل كلينتون، وفقدان الاتصال لمدة 45 دقيقة بعشرات الصواريخ النووية الأميركية!

أم أن الموقع تلقى مساعدات من مخابرات دولة شرقية تريد زعزعة الثقة بالقدرات الأمنية الأميركية؟ أم أن أميركا لم تعد قادرة على تأمين أشخاص موثوقين لإدارة مراكزها الحساسة؟ وهاتان الحالتان تعطيان انطباعات عن أن أميركا قد شاخت ودخلت في مرحلة تراجع سريع.

كلما نتحدث عن الدور السلبي الإيراني في العراق، يعترض مغرضون، بدعوى تصفية حسابات سابقة، امتدادا لصراع طويل. وها هي الوثائق الأميركية تثبت خطورة دور فروع مخابرات إيرانية لإثارة الصراع الطائفي. والقصة طويلة بأبوابها المأساوية، وكيف فتكت قوى الغدر بالأبرياء لاعتبارات طائفية وثأرية. وإذا كان الأميركيون ملمين بالدور الإيراني فلماذا لم يتفاعلوا تجاهه بما يكفي؟

وثبت أن العراقيين ليسوا مهتمين بما فعلته القوات الأميركية، بقدر اهتمامهم بما زُعم من دور لقوات الأمن العراقية، وما نُسب فعله إلى رئيس الوزراء بانحيازه إلى طائفته. ويعكس هذا الموقف شدة المأزق الذي تمر به العلاقات الوطنية. والغريب أن أحد أكثر أفراد كتلة المالكي تحدثا، ذكر على شاشات التلفزيون أن الوثائق لا تؤثر على المالكي في محيطه. فإذا كان المقصود بالمحيط هو كتلته الحزبية فلا غرابة في ذلك، أما إذا كان المقصود الشيعة عموما فالمسألة تحتاج إلى مراجعة وتفسير!

كتلة علاوي تلقفت الوثائق باهتمام كبير، وسلطت الضوء على نقطة حاسمة تتعلق بحصر صلاحيات القيادة العامة للقوات المسلحة بيد رئيس الوزراء، لعدم وجود هيكل عامل لهذه القيادة. فحتى يوم سقوط بغداد كانت هناك قيادة عامة للقوات المسلحة تتألف من كبار قادة الجيش، بفروعها البرية والبحرية والجوية. أما الآن، فلا وجود للقيادة العامة. فأين الدستور من هذا الخرق الكبير؟

كما ربطت «العراقية» بين وثائق الاعتقالات ووجود جهاز لمكافحة الإرهاب قيل إنه مرتبط برئيس الوزراء مباشرة، فيما يفترض ربطه بإحدى الوزارات الأمنية الثلاث في بلد يعاني أزمات طائفية ذات طابع سياسي فئوي. أما مسألة مذكرات القبض فلا تكتسب أهمية جدية، ما دام القضاء لم يأخذ سيادته المطلقة على غرار الوضع في الدول الغربية.

وإذا كان المستور قد كشف رسميا، فإن العلاج لن يتم بطرق تسويفية، بل بحملة كبيرة لتحقيق علني فعال تشارك فيه مؤسسات دولية، وبمراجعة صادقة للمواقف، وليس البحث عمن سرب الوثائق. وفي كل الأحوال، فإن زمن «من يجرؤ على الكلام؟» قد ولى.