لا تنفع ليت مع الدينكا والنوير

TT

استفتاء الانفصال في جنوب السودان على الأبواب، والمؤشرات في معظمها تشير إلى اتجاه الانفصال بعد حرب أهلية استمرت لعقود، قام فيها الجنوبيون بإدارة معركتهم السياسية والإعلامية عالميا بأسلوب ناجح وبمشاركة ودعم من دول مجاورة، وفي حين كان الجيش السوداني يقوم بنشر بياناته العسكرية وإنجازاته على الأرض، كان الجنوبيون يديرون المعركة الإعلامية بطريقة مختلفة جدا وبمساندة بعض السودانيين في المهجر، وعندما كان يغيب عنا الكثير من المعلومات عن الحرب الأهلية والصراع الدائر هناك باستثناء البيانات والتصريحات الرسمية كانت مسؤولة العلاقات والإعلام في الحركة الشعبية لتحرير السودان تتواصل مع وسائل الإعلام الغربية والعربية من أستراليا لشرح وجهة نظر الحركة الشعبية، وعرضت علينا آنذاك القيام بجولة استطلاعية عبر رحلة تمتد من جدة إلى الخرطوم ثم إلى أوغندا، وننتقل من شمال أوغندا عبر طائرة زراعية ثم بالبر إلى معسكرات التدريب القريبة من جوبا، مع إعداد برنامج حافل للقاء أفراد من الحركة ومن الأهالي.

كثير من القضايا العربية خسرناها لأننا اعتمدنا على مبدأ القوة العسكرية ولم نحسن إدارة الصراع في الداخل والخارج، ولذلك عندما تصل الأمور إلى حد السكين نجد أن الرأي العام جميعه في غير صفنا، بصرف النظر عن الحق والعدالة، فقط لأننا لم نحسن إدارة معاركنا ونعرض وجهة نظرنا بشكل مدروس ومقنع، مكتفين بمقولات: «الحق أبلج» و«لا يصح إلا الصحيح» و«أمر واضح لا يتنطح فيه عنزان». وإذا صارت الأمور على غير ما نهوى ونريد، فليس مرد ذلك إلى سوء التخطيط والسياسة وإنما إلى نظرية المؤامرة، وإذا كنا لا نغفل المصالح الدولية والإقليمية والتحالفات وتقلبات السياسة، لكنها في نهاية الأمر لا تختص بدولة أو منطقة وإنما نحن في عالم كان منذ القدم ولم يزل يسير وسط هذه الدوامات، والحكمة تكمن في تلمس الطريق الصحيح وسطها، وفي الصراع العربي الإسرائيلي الكثير من الشواهد والعبر على سوء إدارتنا للصراع حتى وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، إن في الجانب العلمي أو في الجانب السلبي، وهو عدم المبادرة بأفعال من شأنها أن تحولنا إلى الجانب الإيجابي.

إن أبسط القضايا وأوضحها خسرناها على المستوى الإعلامي العالمي، فقط لأننا ركنا إلى أن الحق أبلج ونسينا كيف نعمل على أن نجعل الحق أحق أن يتبع، فعلى سبيل المثال عندما وقعت حادثة الشهيد محمد الدرّة دمعت كل عين في العالم العربي لأن الدراما المرة التي وقعت منذ اختباء الطفل خلف والده إلى مقتله واضحة بالصورة التي تغني عن ألف كلمة، غير أن الإعلام الإسرائيلي استخدمها من زاوية الأب الفلسطيني القاسي الذي يدخل في مواجهات مع الجيش ويتترس بالطفل البريء، وبدلا من أن يوفر له الأمن والرعاية في منزله يجره خلفه إلى مناطق الخطر، وتتلقف وسائل الإعلام الغربية هذه الزاوية لتقلب الحق على المناضل الفلسطيني وتجعله للمحتل المتغطرس الإسرائيلي.

ونذهب بعيدا في التدليل على سوء إدارة الصراع إلى سوء الإدارة منذ البدء حتى تتحول الأمور الإيجابية إلى سلبية والمسائل إلى مشكلات والاختلاف إلى خلاف، فمشكلة جنوب السودان لم يختلقها الرئيس عمر البشير وإنما ورثها من أجيال سابقة. وكان يمكن أن لا تحدث المشكلة من أساسها، فمنذ الاحتلال الإنجليزي كان السودان يدار على أساس شمال وجنوب. ومع استقلال السودان قامت البعثة التعليمية المصرية ومن ضمنها البعثة الأزهرية وكلية الآداب جامعة القاهرة فرع الخرطوم بدور كبير في تثبيت الهوية العربية عن طريق نشر التعليم. وفي ذلك الوقت كانت أهم قبيلتين في الجنوب هما الدينكا والنوير، وكانتا قبيلتين دعويتين ذواتي ثقافة شفوية غير مكتوبة، وتشتركان في اللغة الشفوية والأعراف والتقاليد والعادات. وكان هناك نشاط تبشيري كبير في أفريقيا يقابله نشاط كبير وصادق للبعثات الأزهرية في ذلك الوقت، غير أن ما يهمنا هنا ما قام به الدكتور خليل عساكر وهو من تلامذة بروكلمان وبرجشترسر وكراوس، وكان وقتها في كلية الآداب فرع الخرطوم، فوضع أسلوبا لكتابة لغتهم بحروف عربية، كما قام بطباعة بعض المناهج وفق أسلوب الكتابة التي استفاد فيها من المستشرقين الألمان، وبدأت البعثة التعليمية المصرية بتدريسها في تلك المناطق، ثم دخلت السياسة في ذلك فَوُئِد المشروع. وما زلت أتذكر الدكتور خليل عساكر وهو يطلعنا على تلك الكتب بحسرة، وأتخيل ماذا لو نجح المشروع وارتبطت أكبر قبيلتين في جنوب السودان وهما الدينكا والنوير بالحروف العربية، مدخلا إلى الثقافة العربية، ولم تكن أصولها الزنجية عائقا في أن تكون ضمن النسيج العربي في السودان ليصبح تعدد الأعراق والثقافات واللغات عامل ثراء وغنى للمجتمع السوداني بدل أن يكون عامل فرقة وصراع وقتال دموي شرس كالذي يجري في جنوب السودان وفي دارفور. ولا يهم بعد ذلك إن تم تحت صيغة كونفدرالية أو حكم ذاتي بدل السجال الدائر حاليا والتهديد بعمليات تهجير عرقي واسع بعد الانفصال، ومخاوف من أن تؤدي بعد ذلك إلى تصفيات عرقية يشهدها العالم عامة والقارة الأفريقية بشكل خاص.

هناك قنابل بشرية وسياسية كثيرة موقوتة في العالم العربي من هذا القبيل، وما لم يتم البدء في حل مشكلاتها بصورة جذرية بدل المسكنات المؤقتة فإن أكثر من بؤرة للصراع سوف تطل برأسها في العراق ولبنان واليمن والمغرب العربي وغيرها، وما لم تتغير الرؤية والخطط الاستراتيجية لتحقيقها فإن الأمور على المستوى المنظور ومن واقع الدلائل والمؤشرات الحالية لا تبعث على الاطمئنان، فتذويب الثقافات في ثقافة مركزية، والهيمنة الثقافية والسياسية والمذهبية، والتعامل بمبدأ سطوة الغالب وعنجهية من له الغلبة، ستؤدي كلها أو بعضها إلى جماعات متناحرة بدل أن تكون كيانات تعددية متوافقة.

* كاتب سعودي