المطلوب.. إزالة التوتر السني ـ السني

TT

يظل أحد أهم الأسباب التي دفعت بالدول الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا العظمى إلى إلحاق العراق الشمالي أو كردستان الحالية بتوابعها المتنازع عليها أو ولاية الموصل العثمانية ذات الأغلبية «الكردية» السنية، بالعراق «الجنوبي» العربي المكون من ولايتين «بغداد والبصرة» اللتين كان الشيعة يمثلون فيهما الأكثرية الساحقة، مع وجود أقلية سنية لا تتعدى نسبتها في أحسن الأحوال 25%، من أجل الحفاظ على التوازن السياسي بين الطائفتين الشيعة والسنة وضمان عدم ترجيح كفة «الأكثرية» الشيعية على «الأقلية» السنية، ومنع وصولهم إلى الحكم في العراق الجديد وإبعادهم عن إدارة الخارطة السياسية للمنطقة.

يقال إن لجنة تابعة لعصبة الأمم قامت في عام 1925 أي بعد تأسيس الدولة العراقية بأربع سنوات (العراق تأسس في عام 1921) بإجراء استطلاع ميداني في بعض المدن الكردية وفي الأوساط السياسية والاجتماعية؛ وجهاء ورؤساء عشائر، لأخذ آرائهم حول ما إذا كانوا يريدون الانضمام إلى الدولة التركية الكمالية أو العراق الجديد، فاختاروا العراق «العربي» بمحض إرادتهم، وعلى أساس من العلاقة الطيبة المتبادلة، والمصالح المشتركة، والمساواة في الحقوق والواجبات.. وبانضمامهم للدولة الحديثة، يكون الأكراد قد أدوا خدمة «العمر» للطائفة السنية في العراق، فمن خلالهم أصبحوا سادة الدولة وكبراءها ومدبري شؤونها ومخططي سياساتها من دون منازع لمدة تزيد على ثمانين عاما، فلولاهم لظلوا مجرد مواطنين من الدرجة الثانية تابعين لسلطة الأغلبية الشيعية «الحاكمة».

وكان من المفروض وفق نظام التبادل المصلحي المعمول به في العالم، والرؤية المذهبية المشتركة، والمعاملة بالمثل، أن تتوطد العلاقة «الاستراتيجية» بين طرفي السنة «العربي والكردي» في العراق إلى حدها الأقصى، وترتقي إلى مستوى تشكيل جبهة سياسية وثقافية واجتماعية جامعة، يتعايش فيها الطرفان في وئام وانسجام، دون ضغينة بائتة أو حقد دفين، إخوة متحابين في وطن واحد «سمن على عسل». ولكن شيئا من هذا لم يحصل، فمنذ أول يوم من توليهم لدفة الحكم في العراق، بدأ السنة بالاستحواذ على السلطة وإقصاء الكرد عن الحياة السياسية «المشروعة» (يلاحظ في كل فترات الحكم العراقي أن الأكراد لم يسمح لهم المشاركة فيه كأحزاب ومنظمات سياسية تمثل قومية رئيسية لها استحقاقات، بل فقط شاركوا في السلطة كشخصيات بارزة ومؤثرة في المجتمع)، وبالتالي حرمانه من المشاركة في اتخاذ قرارات سياسية مصيرية تخص الدولة التي هو جزء منها. ولم يكتف السنة بإزاحة الكرد عن المسرح السياسي العراقي فحسب، بل حاولوا جاهدين وبكل الإمكانات التي وفرتها لهم الدولة شن حملة شعواء شاملة عليهم من خلال بث الشكوك في قدراتهم ومواهبهم التي لا تخلو من الإبداع والتحضر تمهيدا لجعلهم عبيدا بدرجة «المواطن» وكذلك استهدفوا موطنهم التاريخي عبر تنظيم حملات تعريب وتهجير واسعة، بشكل لم يسبق له نظير في تاريخ العراق القديم، وكأنهم كانوا ينتظرون اليوم الذي يحكمون فيه ليقتصوا منهم و«يفشوا غلهم» فيهم.

وأول من سن هذه السنة السيئة وقام بتعريب المناطق الكردية، كان «ياسين الهاشمي» في بداية تشكيلته الوزارية الثانية عام 1935، عندما قام بتوطين عشائر الجبور والعبيد العربية في مدينة كركوك مع تهجير قسري لعشائر كردية في المقابل، ومن بعده أصبح «التعريب» عادة متبعة عند رؤساء عراقيين آخرين من «نوري السعيد» إلى «صدام حسين»، حتى وصلت الأراضي التي استقطعت من كردستان نتيجة عمليات التعريب المتعاقبة والتي تسمى الآن الأراضي المتنازع عليها إلى 30000 كيلومتر مربع من أصل 80000 كلم مربع هي مساحة كردستان العراق.. وكنا نأمل من الأحزاب السنية أن تفتح صفحة جديدة مع الأكراد فور سقوط الدولة البعثية عام 2003 وتتخلى عن نهج أسلافها «العنصريين» وتعمل على إرجاع الحقوق المسلوبة لأصحابها الشرعيين ومعالجة الأمور المتنازع عليها بحكمة وتعقل ووحي من الدين الحنيف الذي يدعو إلى إعطاء كل ذي حق حقه. ولكن مع الأسف لم تفعل ذلك بل اقتفت أثر الحكام السابقين وحذت حذوهم، ووقفت بالمرصاد لكل الدعوات والمشاريع السياسية الكردية التي طرحت من أجل وضع إطار قانوني ودستوري جماعي لإدارة الدولة الجديدة والحؤول دون رجوع الدكتاتورية مرة أخرى إلى واجهة السلطة..

رفضوا الفيدرالية بحجة أنها تؤدي إلى التقسيم، مع أن الواقع في إقليم كردستان يثبت عكس ذلك.

ورفضوا المادة 140 الدستورية التي وضعت خصيصا لمعالجة الأراضي المتنازع عليها وبشكل خاص مدينة «كركوك»، دون أن يقدموا طرحا بديلا آخر ناجعا ومقبولا لوضع حل جذري للصراع المزمن بين الكرد وحكومات المركز المتعاقبة..

استفردوا بالحكم في الموصل ورفضوا مشاركة الكرد في إدارة المدينة على الرغم من حصولهم على ثلث مقاعد مجلس المحافظة في الانتخابات التي جرت في 31 يناير (كانون الثاني) من عام 2009؛ 13 مقعدا من مجموع 37.

وكذلك رفضهم المستمر والدائم لإجراء أي تعداد سكاني في العراق، خوفا من إظهار الحجم الحقيقي للكرد في تلك المناطق الساخنة.

ولم تكن العلاقة المتدهورة بين طرفي السنة؛ الأكراد والعرب في العراق، التي تسببت في إلحاق أضرار بالغة بالطرفين والشعب العراقي والمنطقة برمتها على مدى عقود من الزمن، وليدة الأمس أو اليوم، بل نشأت مع أول ظهور للفكر القومي العروبي في العراق على يد الملك غازي (1912 - 1939). ومن ثم تطورت العلاقة إلى الأسوأ بمرور الوقت لتصل إلى ذروتها في زمن حزب البعث، وعندما سقط كان الأمل أن يطرأ تغيير على العلاقة بين الطرفين يناسب الوضع الجديد، ويزيل التوتر بينهما، ولكنهم ظلوا يعزفون على نفس «الاسطوانة» العروبية القديمة، ويرفضون التصالح مع أهم شريحة في المجتمع العراقي، الأمر الذي أدى بهم «أي الأكراد» في النهاية إلى التحرك نحو القوى الشيعية بكل قوتهم والتحالف معها، وتأييدها للوصول إلى سدة الحكم لأول مرة في تاريخها المعاصر، وقد تتطور الحالة السياسية «الاستراتيجية» بين الأكراد والشيعة «ومن وراءهم» إلى أقصاها وربما تتعدى حدود العراق إلى منطقة الشرق الأوسط برمتها، في حال بقي السنة على موقفهم الرافض من قبول الآخرين والتعايش معهم بسلام.

السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح وهو: ترى ما السر في أن السنة - دون غيرهم من الطوائف والشرائح الأخرى العراقية - هم الذين يتصدون للدفاع عن العروبة ويحملون راياتها؟ هل يوجد لهذا السؤال جواب مقنع؟؟