خريطة التحرّش

TT

تقول الأرقام إن مصر من الدول الأولى في العالم من حيث نسبة تعرّض النساء للتحرش الجنسي.

لا ندري إن كان الرقم بهذه الدقة، لكن تزايد ظاهرة التحرش الجنسي في مصر بات حقيقة معيشة، وإن ثبت أن مصر تحتل الصدارة فهذا شأن يبعث على الخوف.

كيف ننسى ما حدث قبل أعوام حين تحول ثاني أيام عيد الفطر وفي عزّ النهار إلى هوس تحرّش جماعي في أكثر شوارع العاصمة المصرية اكتظاظا؟!

اليوم، تَعُدّ بعض الجماعات الحقوقية العُدّة لإطلاق موقع إلكتروني يسمح للمصريات بالإبلاغ بسرعة عن حوادث التحرش عبر إرسال رسائل هاتفية نصية أو عبر شبكة «تويتر» الاجتماعية على الإنترنت. الموقع، واسمه «Harass Map» أو «خريطة التحرش»، سيتضمن خريطة رقمية للقاهرة تظهر المناطق الساخنة، أي تلك التي تشهد نسبة تحرش عالية ويمكن أن تمثل خطورة على النساء، وهذه المعلومات سيتم تبادلها مع النشطاء ووسائل الإعلام ووزارة الداخلية المصرية. يقول مطلقو الموقع إن الفكرة من إطلاقه هي إشعار المرأة المستهدفة بالتحرش أنها ليست وحيدة وأنه يمكنها الحصول على مساعدة فورية.

لا شكّ أن الإعلام الرديف وفي مقدمته المدونات سمح بنقل قضية التحرش الجنسي بالنساء إلى العلن بعد أن ساد التعامل مع الظاهرة بوصفها تصرفات فردية لا علاقة لها بحال المجتمع المصري ككل. لقد سمح مجتمع المدونات المصري بنشر شهادات وصور حيّة لما يجري في بعض شوارع القاهرة من انتهاك للجسد، بدءا من النظرات التحقيرية والألفاظ الغرائزية، وصولا إلى اللمس الجارح وتمزيق الثياب، وبالتالي فرض على المجتمع والدولة مناقشة الظاهرة وبحث سبل الحدّ منها. لكن غلب على مقاربة هذه الآفة نمطان: إما معالجة سطحية تعيد الأمر إلى مؤثرات اجتماعية مثل انتشار البطالة والتهميش وزيادة الكبت وانحدار الأخلاق، وإما مقاربة دينية تقوم غالبا على توجيه اللوم إلى الضحية أو المرأة بوصفها مسؤولة عما أقدم عليه المتحرش، علما بأن معظم اللواتي يتعرضن للتحرش هنّ من المحجبات.

إذا كان ربط ارتفاع نسب التحرّش بارتفاع موازٍ في معدلات البطالة وانخفاض الدخول فإنه أيضا في موازاة ارتفاع آخر في مستويات الالتحاء والتحجب في مصر تحديدا، وهو (أي التحرش) إذ يسود في بيئة تعاني من البطالة فإنه يجري أيضا في بيئة يسود فيها التدين الاجتماعي والسياسي. هنا ينبغي طرح السؤال: لماذا كلما زادت نسبة الحجاب والنقاب، وهو ملحوظ في الشارع المصري، ارتفع هوس الشارع وتحوّل إلى ساحة يتربص فيها المتربصون بالنساء على نحو ما شاهدنا ونسمع كل يوم؟!

يحتاج التدقيق في هذه المعادلة إلى شجاعة تتحلى بها وسائل الإعلام التي طرحت على نفسها مهمة مكافحة ظاهرة التحرش، فضيق الحيز العام وانحسار مساحات التعبير لن يكونا على الإطلاق عاملا مساعدا، سواء على فهم الظاهرة أو على الحدّ منها.