دوافع غزوة بيروت الغربية هي ما يفعله الآن حسن نصر الله

TT

لم تتضح دوافع «غزوة» السابع من مايو (أيار) 2008، التي اجتاح خلالها مغاوير «الولي الفقيه» في حزب الله بيروت الغربية، إلا بعد الهجوم الذي شنته مقاتلات الجناح النسائي في هذا الحزب على فريق التحقيق التابع لمكتب المدعي العام في المحكمة الدولية في ضاحية بيروت الجنوبية وإعلان السيد حسن نصر الله في هيئة أوامر عسكرية، أنه على اللبنانيين مقاطعة المفتشين الدوليين، «نظرا لأن كل المعلومات التي تقدم إلى هؤلاء تصل إلى الإسرائيليين» والمقصود بهذا الكلام هو أن أي تعاون في هذا المجال سيتم التعامل معه على أنه تجسس لحساب الدولة الإسرائيلية.

وبهذا المعنى فإن حسن نصر الله بات يتعامل حتى مع سعد الحريري على أن تعاونه مع المحكمة الدولية والتمسك بها والإصرار عليها، بمثابة تجسس لحساب الدولة الإسرائيلية. وحقيقة أن ضغط ما يسمى تحالف الثامن من آذار، الذي هو حزب الله المدعوم بعمق إقليمي قريب وبعيد، كان قد استهدف رئيس الوزراء اللبناني مبكرا، وأنه تصاعد على نحو متواصل منذ غزوة مايو (أيار) الآنفة الذكر، وحتى هجوم الفيلق النسائي في هذا الحزب، على مفتشي المحكمة الدولية في ضاحية بيروت الجنوبية قبل أيام.

لقد رفع حسن نصر الله، الذي لم يعد هناك أي شك بأن ذلك المثل القائل «يكاد المريب أن يقول خذوني» ينطبق عليه تمام الانطباق، شعار خاطب فيه سعد الحريري يقول: «إما إسقاط المحكمة الدولية وإلغاؤها، وإلا فإن لبنان سيغرق في الدماء حتى شوشة رأسه»، وهذا الكلام إذا ما قرئ قراءة سياسية، وفقا للغة التخاطب التي غدت سائدة في هذا البلد، كأحد مخلفات الحرب الأهلية الأخيرة، فإنه يعني تهديدا مباشرا لرئيس الوزراء اللبناني، ويعني وضعه بين خيارين، فإما أن ينهي هذه المحكمة بصفته وكيل دم رفيق الحريري، وإلا فإنه سيخسر حياته، كما خسر والده حياته في الخامس من فبراير (شباط) عام 2005، ومعه كل هذا الرهط من اللبنانيين الذين انتفضوا ضد تلك المعادلة الإقليمية التي أخضع لها بلدهم لسنوات طويلة.

لقد تقصد حسن نصر الله، بتوجيه من حلفه الإقليمي، القريب والبعيد، أن يكون اجتياح السابع من مايو 2008 لبيروت الغربية مرعبا. وفي هيئة صدمة سريعة مروعة تم إشعار سعد الحريري ووليد جنبلاط خلالها أنهما مستهدفان بحياتيهما شخصيا، وكانت تقديرات «سيد المقاومة» أن حسابات سعد الحريري ستكون كحسابات الزعيم الدرزي اللاحقة التي غلبت مصلحة العائلة الجنبلاطية ومصلحة الطائفة الدرزية على المصلحة الوطنية العامة وعلى القيم والأهداف التي من أجلها كانت «ثورة الأرز»، التي على أساسها تم إنشاء الرابع عشر من آذار.

كانت تقديرات حسن نصر الله، ومعه تحالفه الإقليمي، البعيد والقريب، أن سعد الحريري سيصاب بالهلع والرعب تحت ضغط اجتياح بيروت الغربية المرعب، وإنه إما أن يفعل كما فعل وليد جنبلاط لاحقا، الذي عندما شعر بانقلاب المعادلات الإقليمية والدولية، سارع، من دون إبطاء، إلى التحول من الضد إلى الضد، بطريقة فاجأت كل حلفائه وفاجأت حتى بعض كبار مساعديه في الحزب الاشتراكي والطائفة الدرزية، وإما أن يستقيل من رئاسة الحكومة، ويتخلى عن العمل السياسي ويلتزم منزله أو أن يلملم أشياءه ويغادر البلاد في هجرة قسرية قد تستغرق الأعوام نفسها التي استغرقتها هجرة الجنرال ميشال عون إلى فرنسا قبل عودته إلى لبنان، حيث سبق الزعيم الدرزي إلى الانتقال من خندق إلى خندق آخر والانقلاب على كل مواقفه، وليس قناعاته، السابقة.

لكن هذه التقديرات، وفقا لما جرى لاحقا، ثبت أنها ليست دقيقة، فحسابات سعد الحريري، حتى الطائفية تختلف عن حسابات وليد جنبلاط الذي وضع، بعد عاصفة السابع من مايو، مصلحة عائلته الجنبلاطية ومصلحة الطائفة الدرزية موضع الأولوية بالنسبة للكثير من القضايا الأخرى التي تعتبر قضايا وطنية لبنانية، وهنا فإن ما يجب قوله: إن من يعرف تاريخ عائلة الزعيم الدرزي، وآخر حلقات هذا التاريخ هي اغتيال والده القائد الوطني والقومي الكبير كمال جنبلاط، وإن من يعرف الدروز (بنو معروف)، لا يؤاخذ هذا الرجل على هذه الانعطافة التي قام بها بعد شعوره باهتزاز المعادلة الإقليمية التي كانت استجدت بعد اغتيال رفيق الحريري مباشرة.

كان على حسن نصر الله أن يدرك، لو أنه فكر من خارج دائرة منطق القوة الذي بات يتحكم في كل تصرفاته، فإن ما انطبق على وليد جنبلاط، لا يمكن أن ينطبق على سعد الحريري، الذي لا يتجاوز إرث الزعامة في عائلته العشرين عاما، وهو الذي يتصدر زعامة الطائفة السنية، التي حتى وإن شب بعض المتزعمين فيها الآن عن الطوق، تعتبر نفسها ركيزة العمل الوطني، التي لها امتداد يشمل كل الدول العربية والإسلامية، التي من غير الممكن أن تقبل لزعيمها أن يفعل ما فعله الزعيم الدرزي.

لقد اتضح بعد إطلالة حسن نصر الله من خلال شاشته المعهودة ومطالبته اللبنانيين، في هيئة إنذار وتهديد ووعيد، بمقاطعة المحكمة الدولية ومحققيها وباتهام كل من لن يلتزم بهذا الإنذار بالعمالة لإسرائيل، أن سعد الحريري بات أمام خيارين: فإما أن يفعل ما فعله وليد جنبلاط، وقبل ذلك ما فعله الجنرال ميشال عون، وإلا فليس أمامه سوى إما الاستقالة والذهاب إلى المنافي البعيدة أو انتظار مصير كمصير والده الراحل رفيق الحريري ومصير كمال جنبلاط وحسن خالد وصبحي الصالح ورينية معوض، لكن المؤكد أن هذه الحسابات، التي تستند إلى عامل القوة وإلى الرعب المنتظر بعد إصدار المحكمة الدولية لقرارها الاتهامي المنتظر، سيكون مصيرها الفشل المحتم، فرئيس الوزراء اللبناني ليس مجرد موظف كبير، من الممكن أن يخضع لإملاءات حزب الله وحلفائه الإقليميين، بل هو يشغل حيزا سياسيا يمثل الطائفة السنية كلها والمسيحيين بغالبيتهم والكاظمين عواطفهم وميولهم الحقيقية من أبناء الطائفة الشيعية الكريمة التي لم تشعر على مدار تاريخها الطويل بمصادرة موقفها لاستحقاقات غير لبنانية، إلا بعد أن بزغ نجم هذا الحزب في سماء لبنان بهذه الطريقة التي لن تكون نتائجها، أطال الزمان أم قصر، على هذه الطائفة ذات التاريخ النظيف والعطر إلا الويلات والكوارث والثارات الجاهلية.

إنه على حسن نصر الله، الذي دفعه الشعور بالقوة الزائدة والرعب القاتل مع اقتراب صدور قرار المحكمة الدولية، أن يدرك أن هذا الذي يقوم به يشكل مغامرة مدمرة له ولحزبه أولا، وثانيا للطائفة الشيعية ذات التاريخ الوطني الناصع والمشرف، فحسابات الحقل التي تراوده ويعمل سياسيا على أساسها لن تكون مطابقة لحسابات البيدر، فلبنان - وهذا يعرفه «سيد المقاومة» أكثر من غيره - بلد رمال متحركة وقد ابتلعت هذه الرمال مغامرين كثرا مثله وأكثر منه جاها ووجاهة وقوة. ثم إن سعد الحريري ليس ظهره إلى الحائط كما يعتقد ويظن، وأن المحكمة الدولية ليست مجرد مناورة لبنانية داخلية، بل هي تمثل إرادة دول مقتدرة، أيديها طائلة وتمثل إرادة معظم اللبنانيين والعرب والمسلمين والمجتمع الدولي كله.