شهادة للسعوديين

TT

فتوى «رسمية» صدرت في السعودية تحرم عمل المرأة في مهنة أمين صندوق، أو كما يعرف باللفظ التجاري الذائع والمنتشر «الكاشير». والفتوى تأتي بعد شهور من عمل المرأة فعليا في محال التجزئة المختلفة وفي مناطق مختلفة من السعودية من دون وقوع أي عوائق أو ظهور أي إشكاليات لا عن أصحاب العمل ولا العاملات أنفسهن ولا لدى الزبائن المتعاطين مع هذه المحال المختلفة، بل إن السعوديين أنفسهم قرأوا وشاهدوا العشرات من الآراء والفتاوى والأقوال التي تؤكد تماما عمل المرأة في محال كهذه وأن مسألة الاختلاط حلال، على عكس مسألة الخلوة التي يتفق العلماء على عدم جوازها.

والسعوديون اليوم يدركون من ماضيهم عشرات الأمثلة لسيدات كن يتاجرن بسلع مختلفة ويبعنها على الأرصفة بأسلوب عُرف باسمه الشعبي «البسطة» ولم يتم الاحتجاج ولا الاعتراض عليه، وهو حتما نوع من أنواع الاختلاط، والمنطق والعقل يعجزان عن معرفة الفرق بينه وبين مهنة «الكاشير» في محل للتجزئة! والسعوديون يعلمون تماما من واقعهم الذي يعيشونه ومن تجوالهم وسفرهم حول العالم عموما، والإسلامي منه تحديدا، أن هذه المسألة قد حسمت منذ زمن طويل، بل إنها محسومة منذ عهد الرسول (عليه أفضل الصلاة والسلام)، والصحابة أنفسهم. وبالتالي لا توجد فيها أي إشكالية فقهية مهمة، والسعوديون يعولون ويراهنون على حكمة الدولة وولي الأمر في تنظيم احتياجات حياتهم ورعاية المصالح للعباد وسد باب العوز والذل والمهانة وصون الكرامة بفتح مجال الرزق الكريم، بحيث لا يتعارض مع الدين (وليس العادات)، والتاريخ فيه الكثير من الأمثلة الحكيمة التي يستند إليها السعوديون هنا، فلولا الحكمة التاريخية في مواجهة «الآراء المتعجلة» لما كانت لدينا وسائل اتصال حديثة ولا إعلام ولا تعليم بنات ولا وسائل تنقل ولا أسلوب قياس الوقت ومعرفة الفلك ولا تعلمنا العلوم الحديثة ولا اطلعنا على معارف الآخرين.

أعرف يقينا أن الفتوى الأخيرة لم تأت بإجماع العلماء الموجودين في اللجنة الدائمة للإفتاء؛ نظرا لقناعات بعض أعضائها المعنيين بهذه الفتوى بغير الذي آلت إليه الفتوى نفسها، وهو الذي أدى إلى تصريح من أحد الأعضاء بـ«الاستغراب» عن الكيفية التي تم بها «تسريب» الفتوى قبل صدورها بشكل رسمي. وبما أننا نعيش في عهد الحوار المنادى به في مجالات شتى وأوجه مختلفة، فلماذا لا يكون هناك إطلاع عام للناس على الحجج والأسانيد التي استخدمها العلماء للوصول إلى هذه الفتوى، والسجال الذي تمت فيه النقاشات قبل الوصول للقرار الأخير والنهائي. فهكذا كان أسلوب وديدن العلماء الأجلاء بين بعضهم ولا يعيب أحدا منهم أن يعرف عن أسلوبه ومنطقه وفكره.

شخصيا، أعتقد أن المجتمع حسم مسألة عمل المرأة في مهنة «الكاشير» بقبول الأمر الواقع؛ لأن المجتمع السعودي بطبيعته محافظ ومتدين، وقبل مسألة عملها في مجال محافظ ومحترم، كما قبل - من قبل ذلك - أن تعمل في المستشفيات والمجال الطبي بنجاح واحترام وتميز كبير، وهو أيضا المجتمع ذاته الذي يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه والمجتمع نفسه الذي يعمل بمقولة «الحلال بيِّن والحرام بيِّن»، وهو المجتمع ذاته الذي يدرك الفارق الجوهري والدقيق والمهم بين العادات والتعصب وبين الدين والتشريع المبني على ما أنزله الله وسنة رسوله (عليه الصلاة السلام).

الدولة في السعودية لها قدرة وحكمة وخبرة طويلة في مراعاة مقصد الشريعة واتباع روح المقصد وإرساء الصالح العام في مواقف مختلفة ومعروفة، وهذه «الفتوى» ستكون مثار نقاش لفترة، ولكن المجتمع قال رأيه والدولة قالت رأيها وأرتال من العلماء الأجلاء من الداخل السعودي وحول العالم الإسلامي صرحوا بذلك مرات عدة. شخصيا أرى أن التجاذب الحاصل الآن بين آثار الفتوى الصادرة وبين الأمر الواقع على الأرض هو ترمومتر مهم جدا للتطور الحاصل وخفة الحدة والتوتر في التعامل مع الآراء والفتوى. تجربة الفتوى والهدوء الذي يتم التداول به فيها هي شهادة بحق المجتمع السعودي أولا.

[email protected]