مبادرة الملك العراقية ومستقبل العمل العربي المشترك

TT

تعود المرحلة الحالية من السياسات السعودية في مجال العمل العربي المشترك إلى مؤتمر القمة العربي ببيروت عام 2002، الذي طرح فيه ولي العهد السعودي وقتها مبادرة للسلام، صارت هي المبادرة العربية التي جرى العمل عليها طوال السنوات الماضية. ومنذ مؤتمر القمة الاقتصادية بالكويت، اندفعت المملكة لسد الخلل في الصف العربي من طريق السعي للتصالح بين العرب من أجل مواجهة العدوان الإسرائيلي المستمر، ومنع التدخلات الإقليمية والدولية في الساحة العربية. كان هناك نوعان من العمل مطلوبان: التصدي للأزمات المشتعلة في المشرق العربي، وإعادة بناء العمل العربي المشترك من جديد بعد الثغرات التي ظهرت فيه.

والأزمات المشتعلة في السنتين الأخيرتين، وفي المشرق العربي بالذات هي: النزاع العربي - الإسرائيلي، والنزاع بين الفلسطينيين، ومشكلات العراق على مشارف الانسحاب الأميركي، وتردي الأوضاع السياسية في لبنان. وعلى هذه المشكلات اشتغلت المملكة في السنوات الأخيرة بشكلين: الاتصال المباشر بالأطراف المختلفة، ومحاولة التوفيق بينها؛ والشكل الآخر التعاون مع دول عربية شقيقة ومؤثرة في هذه الساحة أو تلك لبلوغ الهدف نفسه. ومن الشكل الأول جمعها للفلسطينيين بمكة حيث صيغ عهد مكة للإصلاح بين فتح وحماس. وجمعها لشخصيات دينية ومدنية عراقية بمكة أيضا تحريما لسفك الدم بين المسلمين. واستقبالها لفعاليات لبنانية كثيرة قبل مؤتمر الدوحة وبعده سعيا للتوصل إلى قواسم مشتركة. وعندما لم يحصل التقدم المرجو بالسرعة المطلوبة؛ فإن المملكة لجأت للشكل الآخر، وهو التعاون مع مصر وسورية للإصلاح بين الفلسطينيين، والتعاون مع سورية للتقدم في إصلاح الشأن العراقي والشأن اللبناني. بيد أن الحلول والمعالجات لم تتقدم في الساحات الثلاث رغم المقاربة المزدوجة: المباشرة وغير المباشرة.

والتقدم الوحيد الذي حصل كان في مجال عمل لجنة المتابعة العربية التي شكلها مجلس وزراء الخارجية العرب للتعاون والتنسيق مع السلطة الفلسطينية بشأن التفاوض مع إسرائيل ومشكلاته. والواضح أنه ومنذ مؤتمر سرت، الذي شاع فيه الخلاف على أشياء كثيرة؛ فإن المملكة العربية السعودية وبالتشاور مع مصر والجامعة، قررت انتهاج سبيل جديدة في مقاربة المشكلات، دونما عودة عن المصالحات.

وهكذا كانت المبادرة السعودية تجاه العراق والعراقيين، التي تعني التوجه إلى العراقيين جميعا أو قواهم السياسية بشكل مباشر وعلى قدم المساواة، وتحت مظلة الجامعة العربية، فتح المجال لهم للتلاقي والتشاور بالرياض، حتى يصلوا إلى حل يضمن ثلاثة أمور: إشراك الجميع ومراعاة نتائج الانتخابات، وحفظ وحدة الدولة العراقية، وتحقيق الاستقرار.

لقد مضى على حصول الانتخابات النيابية بالعراق ثمانية شهور، وما أمكن الاتفاق على تكوين حكومة عراقية جديدة. فعلاوي زعيم اللائحة العراقية يصر على تولي رئاسة الوزارة، لأن اللائحة كانت أكبر الكاسبين، وإن بنسبة صغيرة. ورئيس الحكومة العراقية السابقة يصر على البقاء في السلطة، لأنه الأكثر تمثيلا - وهو يقصد بذلك أن الكثرة الساحقة من الناجحين معه في الكتلة هم من الشيعة. وقد ساعدته إيران في فرض التحالف معه على قوى شيعية أخرى، كما يبدو أن الأكراد أكثر ميلا إليه. بيد أن هذه «الصيغة» التي لجأ إليها المالكي لا يتوافر لها وفيها التوازن في المعسكر العربي، كما أنها لا تستطيع تحقيق الاستقرار. وقد بدا ذلك واضحا في انقسام نواب المجلس الأعلى والصدريين عليه، وميل أكثرية النواب السنة على اختلاف أحزابهم إلى عدم تأييده، واعتزال المشاركة في الحكومة إن شكلها هو. وما استطاعت سورية - أو ما أرادت - الإصرار على التوازن بحيث لا يعتزل علاوي، ولا يستبد المالكي. ولذا كان على المملكة أن تعتزل الساحة العراقية، أو تبادر من أجل المصلحة العراقية والعربية العامة. بذلك فقد جاءت مبادرتها الجديدة في الأسلوب (وإن تذكر بعضهم جمع السعودية للبنانيين في الطائف أواخر العام 1989)، فشكلت صدمة إيجابية، لا بد أن تتلوها مشاورات تقوم بها الجامعة العربية، تحقيقا لأوسع مشاركة من جانب القوى السياسية.

وقد كان البعض مهتما بمعرفة ما إذا كانت المملكة قد تشاورت مع إيران وسورية. وكان البعض الآخر مهتما برأي الولايات المتحدة في الخطوة أو المبادرة. ولا شك أن المبادرة مفيدة لكل من إيران وسورية، رغم اختلاف الموقف بل الموقع. فالعراق بلد كبير، واستمرار الاضطراب فيه، يتهدد الإيرانيين والسوريين على حد سواء. لكن لا بد من القول إن إيران لم تأبه في الشهور الماضية لعودة الاضطراب والقتل بشكل مكثف إلى العراق؛ بل سعت بكل سبيل لجمع الأطراف الشيعية من حول المالكي. وعندما جاء الرئيس نجاد إلى سورية ولبنان، وصرح تصريحاته المعروفة. كان لا ينسى أحيانا إدخال العراق ضمن المحور الذي وضع فيه سورية ولبنان إلى جانب إيران.

وإذا كان ذلك قد أزعج العرب، فلا شك أنه أزعج الأتراك أيضا. إذ لهم مصلحة في أن لا يتهجر التركمان من كركوك ومنطقتها، وأن لا يعود الأكراد إلى أحلام الدولة المستقلة. وهذا فضلا عن أن العراق أنشئ في الأصل لكي يكون حجابا حاجزا بين الجارين الكبيرين، فلا تترجح كفة على كفة في السطوة والنفوذ والمصالح. فعروبة العراق (بهذا المعنى) واستقراره، مصلحة حيوية لتركيا ولإيران كما هي للسعودية ولسورية؛ وخاصة أن الطرف المستغل والمستنزف ليس إيران فقط، بل «القاعدة» أيضا. والمعروف أن «القاعدة» عادت لإظهار حيوية كبيرة في سائر أنحاء المنطقة، خاصة في العراق. فقد تكاثرت العمليات الإرهابية وآخرها رهائن كنيسة «سيدة النجاة» بالكرادة.

ومع ذلك، يبقى السؤال عن موقف إيران من المبادرة السعودية. فالأرجح أن لا تعارض ذلك علنا. لكن موقفها الحقيقي سيؤثر في استجابة المالكي ومعسكره. والذي كان قد زار طهران. ودعاها للمساعدة في بناء العراق! وليس خافيا على أحد أن هناك حالة مواجهة مع إيران بسبب تدخلاتها في عدة مواطن في العالم العربي. وهي تقول في العادة إنها تريد بذلك مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل. لكن الذي يضطرب هم العرب. وليس أميركا أو إسرائيل! وهكذا فقد نجد أن من مصلحة إيران - رغم نفوذها المتزايد في العراق المضطرب. ولبنان المعذب، وغزة المحاصرة - وهي على مشارف التفاوض مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، أن لا تبالغ في استعداء العرب، وتترك العراق يستقر وينصرف لإصلاح خرابه العمراني والإنساني والسياسي.

أما العرب، الذين كان وزير الخارجية السعودي قد أنذرهم في مؤتمر سرت وحذرهم من «الفراغ الاستراتيجي» الذي يخلق تنافسا من دول الجوار على ملء الفراغ. ونشر النفوذ والاضطراب. فقد سارعت من بينهم دولتا الإمارات والكويت إلى تأييد المبادرة السعودية. فالانقسام الحاصل في لبنان والبحرين والعراق. يوشك أن يحصل في الكويت، وهو الذي حذر من عواقبه أمير الكويت قبل أيام. ولا شك أن مصر والأردن يدعمان الدعوة السعودية. وكذلك البحرين. يبقى الموقف السوري مهما. رغم أن سورية استقبلت المالكي وبدت داعمة له. إنما الأهم نجاح الجامعة العربية في استقطاب القوى السياسية العراقية باتجاه الاستقرار والسلام والتوحد من حول مبادرة الرياض.

لا يستطيع العرب - ومن ضمنهم العراقيون - الاستمرار في إخفاء رؤوسهم في الرمال بينما ينتشر الاضطراب والتشرذم في صفوفهم ومجتمعاتهم وكياناتهم السياسية. وها هي السعودية تعرض عليهم فرصة للمرة الخامسة أو أكثر: فرصة للأمن والاستقرار والعمل المشترك، فهل يخافون أم يستجيبون؟ الخوف هو الذي أوقعهم في الاضطراب، والعمل المشترك هو الذي يخرجهم من المأزق، وإن غدا لناظره قريب.