معارف الحارثي وخيبته

TT

عندما وصل فهد العرابي الحارثي إلى باريس في طريقه إلى السوربون، كان في أمتعته ربطة عنق واحدة. وكانت لماعة وفيها خيط فوسفوري، يمكن أن يضيء عند اللزوم. لكن باريس «مدينة الأضواء» ولم يحتج إلى فوسفور الربطة، وهو يعد للدكتوراه، واحدا من سعوديين قلة اتجهوا إلى تحديات اللغة الفرنسية، خلافا لعشرات الآلاف الذين ذهبوا إلى جامعات بريطانيا والولايات المتحدة.

في كتابه الجديد «المعرفة قوة.. والحرية أيضا» يحاول الدكتور فهد الحارثي مراجعة الآثار التي تركها التعليم في حاضر ومستقبل العرب. وسوف نجد معه ألا أثر للعلم سوى ادعائه. ولا مكان للتعليم إلا كوسيلة شخصية، فردية، لبلوغ هدف فردي وشخصي، سواء في الوظيفة الرسمية أو في الحقل الخاص.

لا يخفي الكاتب مدى عمق المرارة التي يشعر بها «فالجامعات والمؤسسات التعليمية الأخرى في مجملها، تكاد مهمتها تقتصر على تخريج موظفين وحفاظ ومرددين لمقولات، ومستحضرين للتاريخ والشعر» وليست «الدرجة الجامعية، مدخلا إلى العمل الاجتماعي والترقي الوطني، وإنما هي مجرد خبر مفرح وموضع اعتزاز للأهل والأقربين».

يجوز وضع عنوان آخر، لهذا الاجتهاد القيم، الذي يقع في 650 صفحة من المواقف والأبحاث ومن الوقوف على أطلال المستقبل، بدل الوقوف التقليدي على أطلال الجاهلية بين الدخول وحومل. عنوان من نوع «الخيبة الكبرى بالتعليم». أو الخيبة الكبرى بالمناهج. أو الخيبة الكبرى بأجيال المتعلمين العرب، الذين ملأوا جامعات العالم وعادوا إلى بلدانهم فما ملأوا شيئا.

كلما حاول الحارثي سبر المستقبل تعثر بعثرات الحاضر. مناخ علمي غير مجد وغير جمعي وغير عطائي، ومناخ ثقافي فارغ، متقاتل، تشتد عليه الضحالة والإكثار ورغبات الظهور المملة. وتبدو له هذه العينة، أي هذا الحاضر، جسرا ورقيا ركيكا لا يمكن عبوره إلى أي مستقبل سوي بين الأمم، وإذا لم تكن العلوم والجسور والعبور، فماذا تكون؟.

أدخل الحارثي في تجربته الصحافية منهجية مختلفة. وإذ يعود من الصحافة إلى البحث والتأليف، يلزم نفسه بمنهجية علمية واضحة ونادرة أيضا في عالم النشر العربي. والتجربتان مميزتان بلا شك، ومقدرتان في أوساط زملائه وفي أوساط قرائه معا. لكن يبدو وكأن «المعرفة قوة والحرية كذلك» نوع من شهادة عمر على إخفاقات جيل. وقد يوحي مثل هذا الاستنتاج بأن ذلك كلام قرأناه وسمعناه من قبل. إلا عندما نقرأ هذا البحث الذي شاءه الحارثي، بوضوح، أن يكون بلا سابقة.