العراق في «ضمير» السعودية.. من المؤسس إلى الملك عبد الله

TT

كلما تغشى اليأس السياسي العربَ، واعتكر الظلام وأطبق: شق العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز الظلام بمصباح الأمل، ووميض الاستبشار.. قبيل قمة الكويت الاقتصادية كان الأفق مكسوا بالظلام فجاءت كلمة الملك الشهيرة لتفتح نوافذ للضياء.. وحين تأزم الوضع في لبنان أو زادت أزمته حدة قبل شهور: ابتدر رحلته إلى سورية حيث اصطحب الرئيس بشار الأسد إلى لبنان في زيارة أطفأت الحريق الذي كاد يشتعل ويمتد.

واليوم عندما تعقدت الأمور في العراق، وتعطلت - من ثم - مصالح الشعب العراقي بسبب الغرق في المشاحنات السياسية وتعطل تأليف حكومة: صدع هذا الزعيم العربي المسلم بندائه الصادق الذي يستنهض فيه الساسة العراقيين كي يجمعوا على إنقاذ البلد مما هو فيه من حيرة ومأساة وتمزق وتعطيل تنمية ومصالح، ويستضيفهم فيه إلى لقاء جامع في عاصمة بلد: زخرت مواقفه بجمع كلمة العرب، ومداواة جراحهم.. بلد قال مؤسسه العظيم عن العراق - بالذات - وهو يخاطب بعثة الكشافة العراقية في موسم حج عام 1353 هـ: «أنا مسرور بهذه النهضة العلمية المباركة التي ظهرت في العراق والتي سيكون لها أثر في تقدم العرب، وأنا مسرور أيضا بمشاهدتكم في بلادي لتزداد بالتعارف الصلة التي تربط بلادنا ببلادكم.. إننا نحن والعراق شيء واحد تربطنا به روابط كثيرة وأهمها أننا والعراقيون عرب وخصائصنا واحدة. فكل ما يسر العراق يسرنا. وكل مصيبة تصيب العراق هي مصيبة لنا. نتألم لألم العراق، ونفرح لفرحه. ومصالحنا مشتركة، لذلك أقول لكم في هذا المحفل الحاشد: إنني أعاهد الله على ثلاثة أمور: أن تكون كلمة الله هي العليا.. وأن أكون أنا وعيالي وجندي مجاهدين في سبيل العرب ونصرتهم.. وإنني سأبقى - ما زلت حيا - على الود مع العراق».

وهذا الشبل من ذاك الأسد.. فالملك عبد الله ابن وفي وبار للملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل. وقد تجلت خصائص من الأب المؤسس في ابنه عبد الله تجاه العراق الشقيق ومن ثم كان نداؤه الواضح الصادق إلى الأخوة العراقيين.

وتنبثق رؤية هذا النداء من منظومة معطيات موضوعية في طليعتها: الحفاظ على وحدة العراق وسيادته واستقلال قراره.. وإعادة روح «التعايش» والإيلاف بين طوائفه ومذاهبه المختلفة كما كان الحال عبر مئات السنين.. وإدارة البلد بـ«الوفاق»: لا بالتفرد والشقاق.. وأن لدى العراقيين من الكفاءات والوطنية ما يمكنهم من إدارة شؤون بلدهم دون تدخل خارجي.. وأن للعراق دورا عربيا إسلاميا ينبغي استئنافه بعد طول غياب، وهو دور يستحيل استئنافه من دون المعطيات الخمسة السابقة.

ومما يعزز فرص الاستجابة الصادقة للنداء الصادق: الرؤية الاستراتيجية لما ترتب على احتلال العراق من «زلازل وكوارث حضارية».. مثلا.. لقد ألف البروفسور الأميركي رايموند بيكر (وآخرون). ألف كتابا بعنوان «التطهير الثقافي في العراق»!!!.. والمضمون الأساس في الكتاب هو: أن الاحتلال عمد إلى هدم وطمس «الهوية الحضارية والبنية الثقافية للعراق».. ويقدم الكتاب نموذجا من هذا الهدم الثقافي المتعمد فيقول: «لقد تم تجاهل التدمير الذي حاق بنظام التعليم العالي وقد كان هذا التدمير هدفا مقصودا للاحتلال.. لقد جرى نهب المكتبة التعليمية والإلكترونية للأكاديمية العراقية للعلوم (تأسست عام 1948 لتعزيز اللغة العربية وخدمة التراث العربي).. ومن صور التدمير الثقافي والحضاري: نهب متاحف العراق وحرق المكتبات واغتيال الأكاديميين والمفكرين العراقيين».. وهذا التخريب الواسع النطاق لم يكن مصادفة، ولم يقم به جنود طائشون أو عصابة لصوص. بل هو تدمير وراءه فلسفة أميركية أو قل «فلسفة صهيونية معينة» هي - في حقيقتها - ركيزة الركائز في نظرية «الفوضى الخلاقة» -.. فمن الأهداف الشريرة للاحتلال إنشاء «مجتمع عراقي جديد» من خلال تفكيك وهدم كل ما كان قائما في العراق - ولا سيما بنيته وهويته العلمية والثقافية والاجتماعية - ثم إعادة بنائه على أسس مكيفة بمفاهيم المحتل وذوقه ومعاييره.. إن هذا الكتاب يكشف أن نظرية «الفوضى الخلاقة» طبقت فعلا في العراق. وكان يراد تطبيقها على مستوى المنطقة إلا أن موانع عديدة منعت من ذلك.. وملخص هذه النظرية الشريرة هو: أطلق فوضى عامة عارمة واسعة النطاق تحدث زلزالا هائلا في البنى الثقافية والاجتماعية والسياسية.. ثم في خضم هذه الفوضى «تتخلق» مجتمعات وأنظمة جديدة.

وإذ نأمل - أن يكون نداء العاهل السعودي تجاه العراق فرصة لتلاقي العراقيين على معالجة حاضرهم ومستقبلهم بحكمة، فإننا نقترح - في الوقت نفسه - أن يكون هذا النداء فرصة سياسية واستراتيجية وحضارية لأهل المنطقة جميعا - حكومات ونخبا وشعوبا - : أن يكون فرصة لاستخلاص الدروس والعبر مما جرى للعراق.

1 - وأول عبرة هي التحرر الكامل، والتطهر التام - والناجز - من (الثقة العمياء) بأميركا وعبقريتها ومصداقيتها.. فقد رفعت شعار أو مبدأ مكافحة الإرهاب، ثم عمدت إلى اتهام النظام العراقي - يومئذ - بأنه حليف للإرهاب وداعم له. ولقد ثبت أن هذا كذب محض (ككذبة أسلحة الدمار الشامل).. يضاف إلى ذلك أن من (العمى الاستراتيجي) أن يكافح الإرهاب بهذا التهور والجنون.. وهذه هي شهادة مايك مور المسؤول السابق عن إدارة مكافحة الإرهاب في وكالة الاستخبارات الأميركية.. يقول مور: «مستنقع العراق يعتبر بمثابة عامل رئيس في الحد من قدراتنا على تطوير خبراتنا لمكافحة تنظيم القاعدة. فالحرب على الإرهاب بهذه الطريقة خدمة كبرى قدمها الأميركيون لقادة الإرهاب، ولكل شخص يفكر بطريقتهم. إن موقفنا سيئ جدا في العراق وأفغانستان. فإذا بقينا سننزف دما، وإذا رحلنا فالمشكلة تزداد سوءا بمعنى أننا نحن الذين نغذي الإرهاب».. ومما يدعو إلى التطهر من الثقة العمياء بالإدارات الأميركية: أنهم وهم يلوحون بغزو العراق، كانت أهدافهم معروفة: إسقاط الدكتاتور. على حين جعلوا هدفهم «السري الخفي» مكتوما وهو تحطيم وإلغاء ومسخ «الهوية الثقافية والحضارية» للعراق.. صحيح أنهم لم ينجحوا (والحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه)، بيد أن عدم نجاحهم مسبب بعوامل أخرى من أهمها: حساباتهم الخاطئة الغبية وهي حسابات تحدّث عن مثلها (روبرت مكنمارا) وهو يتحدث عن التجربة الأميركية الخائبة في فيتنام، فقد جعل الجهل الأميركي المطبق بشخصية الشعب الفيتنامي: في مقدمة أسباب خيبتهم العسكرية الحضارية هناك.. ومن العبر البليغة المفيدة - ها هنا - : أن تحطيم الهويات الثقافية والحضارية هدف استراتيجي مضمر قد تدفع الصهيونية إلى تطبيقه ضد أي شعب وأي دولة أخرى في المنطقة: في هذه الصورة أو تلك: بالغزو الخشن، أو الناعم!.

2 - العبرة الثانية: أن الأميركان لن يترددوا في التخلي عن وعودهم في لحظة ما. فبسبب تخبط سياساتهم وما تمر به بلادهم من أزمات وخيبات مريرة في العراق وأفغانستان يضم إلى ذلك: الأزمة المالية والاقتصادية الطاحنة.. هذا كله جعلهم يقولون للعراقيين: واجهوا مصائركم بأنفسكم فقد أرهقتمونا.. وهذا المنطق يفسر ظاهرة «انحسار» نفوذهم في العراق.. وفي هذا عبرة عظمى للعراقيين وغير العراقيين: عبرة تقول: يتعين ويلزم - بالضبط - : الاعتماد على الذات الوطنية على المستوى الوطني، والاعتماد على «الذوات» المشتركة على المستوى الإقليمي.

3 - العبرة الثالثة هي: الاستعصاء القوي على الاستجابة لإيحاءات شعار أن «الديمقراطية هي الحل» وهو شعار يبيعه الغرب، ويروج له الإعلام السياسي الذي يتصور الديمقراطية «تصورا خرافيا دراويشيا»، أي يتصورها بأنها «دواء لكل داء»!!.. ولسنا منكرين للديمقراطية بحسبانها مناخا للحريات العامة، وإنما ننتقد هذا التصور الطوباوي لها.. ففي اليمن والصومال وباكستان ولبنان والعراق - مثلا - ديمقراطيات (انتخابات وبرلمانات ومعارضات)، لكن هذه الدول غارقة في أزمات وبيلة لم تستطع الديمقراطية حلها، لا على مستوى الوحدات الوطنية، ولا على مستوى الأمن، ولا على صعيد تصريف الشؤون العامة ومسارات التنمية، ولا على صعيد «الصورة الخارجية»، أو حسن السمعة. لكن الاستعصاء على الاستجابة لشعار «الديمقراطية دواء لكل داء» ينبغي أن يقترن ببدائل تعصم الناس من «فتنة» الديمقراطية الأسطورية.

أيها العراقيون: اسمعوا نداء العاهل السعودي واعقلوه فإن الرائد لا يكذب أهله.