المعارضة المسؤولة

TT

قاومت إغراء تخصيص مقال الأسبوع لتمركز الإرهابيين في اليمن لسببين:

الأول.. لتمسكي بأطروحة مقالي (التاسع من الشهر الماضي)، بأن عصابة «القاعدة» تتمركز في اليمن استهدافا للمملكة العربية السعودية، وبضرورة الاستعانة الكاملة لصنعاء وبشفافية تامة بالقوى العالمية، وبخبرة الرياض في مكافحة الإرهاب، بدلا من التحجج بـ«السيادة الوطنية»، وإلا كان مصير اليمن كمصير أفغانستان قبل سقوط حركة طالبان.

الثاني ما أعتقد أنه نفع لقراء «الشرق الأوسط»، كجريدة نخبة يضعون الديمقراطية والإصلاح السياسي على قائمة مطالبهم للدفع ببلادهم نحو الأرقى، خاصة أن الموضوع لن تتناوله صحيفة أخرى لأن المناسبة لم يحضرها أي من مراسلي أو كتاب الصحف العربية.

وربما لاحظ القراء الأعزاء سابقا حرصي على تقديم نماذج من ديمقراطية برلمانية عريقة قد تكون مفيدة لأطراف، كالعراقيين مثلا الذين دخلت «أزمة» تكوين حكومتهم شهرها الثامن منذ الانتخابات؛ لعلهم يحتذون بتجربة بريطانيا. فعندما لم تحسم الانتخابات الأغلبية لحزب محدد، اجتمع اثنان من موظفي الدولة التابعين للتاج، ليس لهما انتماء سياسي، بزعماء الأحزاب، وتشكلت الحكومة الائتلافية من المحافظين والأحرار في 48 ساعة.

المناسبة هي دعوة إد ميليباند، زعيم حزب العمال المعارض، للمجموعة الصحافية البرلمانية لمشاركته المشروبات مساء الاثنين في مكتبه المطل على نهر التيمس في قصر وستمنستر (الذي يضم البرلمان بمجلسيه)، وهو تقليد متبع لعشرات السنين يعتبر «ظلا» لتقليد رئيس الوزراء الذي يدعو المجموعة الصحافية نفسها مرتين في العام (نهاية الدورة البرلمانية في الصيف، وبدايتها في الخريف).

وزعيم المعارضة هو رئيس وزراء لحكومة الظل، التي يجلس أعضاؤها في المقاعد الأمامية على يسار منصة رئيس الجلسات في مجلس العموم.. وزراء ظل للمالية والدفاع والداخلية والمعارف والمواصلات، وغيرها، لأن كلا منهم هو ظل وزير على المقاعد الأمامية على يمين المنصة (مقاعد الحكومة).

مكتب زعيم المعارضة ضخم وفسيح، وفيه طاولة اجتماعات، وبمساحة مكتب رئيس الوزراء في المجلس؛ ويتقاضى مرتبا مثل رئيس الوزراء. فمنذ عام 1911 يتقاضى نواب مجلس العموم راتبا شهريا، بعد استصدار قانون للمساواة الطبقية. وقبل الرواتب كان العمل السياسي حكرا على القادرين فقط (للمقارنة نائب البرلمان العراقي، الذي لم ينجز أي أعمال برلمانية منذ انتخابات مارس/ آذار، يتقاضى ما يساوي 180 ألف جنيه إسترليني، أي مرة ونصف المرة أعلى من راتب رئيس وزراء بريطانيا).

في الدردشة الجانبية، بين ميليباند والصحافيين (اثنين أو ثلاثة عند دخولنا مكتبه) لم يخجل من أن يسألنا، خاصة مجموعتنا من «العواجيز»، عن رأينا في طريقة أدائه، وكان قد مر بثلاث فقط من منازلات الأربعاء الأسبوعية بينه وبين رئيس الوزراء ديفيد كاميرون (ومن بين مجموعة الصحافيين أربعة يغطون أخبار المجلس منذ ما قبل ولادته).

وسواء في الدردشة الخاصة، أو في الكلمة التي ألقاها - استغرقت أقل من ست دقائق - لم ينتقد ميليباند منافسه ديفيد كاميرون، بل اعترف بأن حزبه خسر الانتخابات لأخطاء سياسية، ولم يوجه اللوم للصحافة لكونها لم توصل الرسالة كاملة للناخب.

ووعد الصحافة بأن يبذل أقصى جهده لقيادة «معارضة مسؤولة»، تدعم الحكومة عندما تقتضي مصلحة الوطن ذلك، وتقترح سياسة بديلة إذا أخطأت. قائلا إنه ألح على أتباعه في مقاعد العمال بالتصويت على دعم إجراءات الحكومة في مكافحة الإرهاب بعد اكتشاف الطرود المتفجرة القادمة من اليمن.

ورغم حداثة خبرته (انتخب أول مرة للبرلمان في 2005 فقط)، فإن ميليباند كان لبقا، خفيف الظل، ولم «يسيس» الأمسية. فبعد الكلمة التي رحب فيها بانتقادات الصحافة، مؤكدا أنه لن يفرق في طريقة التعامل بين من تؤيد صحيفته حزبه العمالي، وآخر في صحافة تهاجمه، لأننا كصحافيين نؤدي عملا قد لا يعجب الساسة؛ عاد لتجاذب أطراف الحديث وكأننا في حفل اجتماعي مع الجيران نتبادل الحديث عن أحوالنا العائلية وصحة من كان مريضا وتبادل الدعابات مع الزملاء والزميلات.

ما أود أن أقدمه للقراء أن زعيم المعارضة لا يكتفي فقط بأن يعارض ويبحث عن الثغرات في أداء الحكومة. فهذا غالبا من مهمة الصحافة التي لديها إمكانيات وصحافيون متخصصون في التحقيق والاستقصاء، خاصة الصحافة المحلية في دوائر النواب الـ650، حيث تحاسبهم باسم الناخبين في الدائرة.

أما النواب، حكومة ومعارضة، فلهم مشاغل كثيرة لا تتيح لهم ما يكفي من وقت لاقتفاء أثر وزراء الحكومة وإحراجهم. فعطلة نهاية الأسبوع يخصصها النائب أو النائبة في الدائرة لاستقبال الناخبين واجتماعات الدائرة لطرح مشكلاتهم أو اقتراحاتهم في البرلمان، وانتهاء باللجان البرلمانية التي تتخصص في مناقشة كل المهام من صحة ومواصلات وتعليم وأمن وإسكان وغيرها، مرورا بجلسات المناقشة التي أحيانا ما يجبر أعضاء كل حزب على حضورها (من زعامة الحزب عن طريق مجموعة يرمز إليهم بحاملي السياط يوجهون طريقة تصويت النواب)، إذا استدعت المناقشة تصويتا، ويحرص كل حزب على حضور جميع أعضائه للجلسة (في عام 2004 خسرت حكومة توني بلير العمالية التصويت على تعديل في لائحة التعليم بفارق صوت واحد، كان صوته هو، حيث كان غائبا عن البرلمان)!. وتتطلب مهام زعيم المعارضة إعداد برامج بديلة عن برامج الحكومة. ومثل الميزانية السنوية التي يقدمها وزير المالية للبرلمان لمناقشتها في مارس من كل عام، يقدم وزير مالية الظل ميزانية بديلة. والأمر ينطبق على برنامج إصلاح التعليم الذي يقدمه وزير المعارف، وبرنامج تطوير البوليس والأمن الذي قدمته وزيرة الداخلية، حيث تجد وزراء الظل يقدمون مشاريع وبرامج وميزانية بديلة.

وبالطبع لا يناقش البرلمان الميزانية البديلة التي يقدمها وزير مالية الظل (المعارضة العمالية)، وإنما تعرضها الصحافة، بأنواعها، للتشريح والتحليل، وما إذا كانت ستثري الناخب أم تفقره. المعارضة تنشر مشروع الميزانية في كتيب تماما مثل ميزانية الحكومة، وتوضح مصادر الدخل الذي سيمول مصاريف تنفيذ الحكومة لبرامجها. الصحافة تناقش وتستجوب حكومة الظل في كل كبيرة وصغيرة في الميزانية، وترى ما إذا كانت أفضل للأمة من ميزانية الحكومة أم لا. ولهذا يحرص زعيم المعارضة على مناقشة الصحافيين لتبادل الآراء والأفكار والتعهد بأن يقود معارضة مسؤولة. ومثلا الانتخابات البرلمانية بعد ثلاثة أسابيع في مصر، فهل جهزت أحزاب المعارضة هناك برامج بديلة، خاصة ميزانية تقدم للناخب تحدد فيها مصادر الدخل بالأرقام: من الضرائب، أو من قناة السويس، أو من تعريفات الجمارك، أو الدعم الأميركي، أو بيع أراض، أو بيع اليانصيب، بدلا من الاستهانة بعقول الناخبين بشعارات كـ«الإسلام هو الحل» أو «الاشتراكية هي الحل»؛ أو «التأميم»، أو «رقصة الحجالة لفرقة رضا للفنون الشعبية هي الحل»؟!