«قاعدة بغدادية»

TT

حتى لا يذهب القارئ بعيدا في تفسير العنوان، فإن «قاعدة بغدادية» هي عنوان لكتاب قديم في النحو لأبي نوارن حامد بن عبد الحميد، قال فيه إن الحروف العربية 17 حرفا فقط، والباقي نقط، وهي مقولة قد يتفق معها البعض أو يختلف. ولكن يبدو أن النقط هي التي تجمع بين الأمس النحوي واليوم السياسي في بغداد. قاعدة بغدادية تتمدد حتى أصبحت قواعد كثيرة، منها هذا الهمّ المقيم في تشكيل الحكومة العراقية المنتظرة منذ زمن، التي تراوح مكانها. السيد عمار الحكيم، رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، كان في الكويت قبل ثلاثة أشهر، وبالتحديد في آخر أيام رمضان المبارك الفائت، وقال في أكثر من تجمع ما نصه: «أبشركم أن الحكومة العراقية الجديدة سوف ترى النور مباشرة بعد العيد»، وقتها قال أحد الموجودين من وجوه الكويت موجها كلامه إلى السيد عمار، إن هناك قولا كان يردده بعض أهل الحكم السابق يقول: لكم اللطم ولنا الحكم. واضح من هذا القول الحث الشديد للسيد عمار وفريقه الأوسع، وأن يسرعوا في تشكيل الحكومة العراقية قبل أن «يلطم العراق بأسره»، وإلا فسوف تبقى عليهم تلك المقولة، وتعني عدم قدرتهم على الحكم.

مرت الأسابيع والشهور والحكومة في بغداد لا تولد، ولا حتى متعسرة. في الأسبوع الماضي، وقبل أن يعرف الجمهور بمبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز لمحاولة لمّ الشمل العراقي المشتت، تحدث السفير العراقي في الكويت في رحاب قسم العلوم السياسية في جامعة الكويت، وقال الكثير نقدا لحروب العراق السابقة، سواء مع إيران أو احتلال الكويت، إلا أن اللافت في قول السيد السفير أن المشكلة التي يواجهها العراق اليوم ليست الانسحاب العراقي - وقد عقدت الندوة تحت ذلك المسمى - بل المشكلة كما شدد السفير أن الجوار العراقي لا يريد أن يعترف بـ«الديمقراطية العراقية الوليدة». بالطبع من حق السفير أن يكيف المشكلة كما يراها، أو تراها الحكومة التي يمثلها، إلا أن وضع اللوم على «الدول المجاورة» للعراق بأنها تمانع الديمقراطية العراقية هو من قبيل لوم الآخر دون وجه حق. المعنى الذي تسرب إلى قناعتي هو أن الدول المجاورة هي الدول العربية، لأن إيران لها اليوم اليد الطولى في الشأن العراقي، ذلك أمر يعرفه الداني والقاصي، ومثبت بالكثير من الوثائق. بقيت تركيا والكويت وسورية والسعودية، فأي واحدة من دول الجوار تمانع في الديمقراطية العراقية؟ وها هي نتائج الديمقراطية تتمثل أمامنا، والتي تتعطل فيها المؤسسات المنتخبة طوال هذه الفترة.

واحدة من دول الجوار مدت يدها بوضوح ودون منة من أجل فتح باب الوفاق العراقي وبالديمقراطية العراقية المعطلة، هي المملكة العربية السعودية. وجاءت دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز الصافية والواضحة كي تقول للعراقيين - بكل أطيافهم - تفضلوا، مرحبا بكم على أرض عربية، وتحت خيمة الجامعة العربية، كي ننظر جميعا في مخرج أو مخارج لهذا الاستعصاء البغدادي الذي طال أكثر من اللازم، حتى أصبح «قاعدة» بدلا من كونه استثناء. وهو على مر الأيام والشهور يعطل ما يصبو إليه العراقيون من استقرار وتقدم نحو التنمية، التي اشتاق إليها العراقيون كما يشتاق العطشان لشربة ماء. لأن أي عاقل فطن، عراقي أو غير عراقي، يعرف المعرفة الأكيدة أن أي تأخير في تشكيل الحكومة العراقية يساعد على تدمير الذات والوطن العراقي، كما أن له عواقب سلبية بالغة الخطورة، قد لا نتبيّن تأثيرها اليوم، لأن الفراغ السياسي يولد بؤرة استقطاب للتطرف. وبدلا من أن تلقى هذه الدعوة الكريمة والصادقة من أخ غيور على العراق والعراقيين ما تستحق من قبول، وجدنا أن طائفة تقبل وترحب وأخرى تحجم وتفسر الأمر تفسيرا لم يذهب إليه أحد، ولم يدُر بخُلد مخلوق.

كانت الدعوة منطلقة من منطق عقلاني قائم على فكرة: إن لم تستطع القوى السياسية المختلفة الوصول إلى اتفاق، فلنقم بمساعدة جميع الأطراف للوصول إلى ذلك الاتفاق. وبالطبع هذا ينسجم مع الفكرة القائلة إنه لا أحد يستطيع أن يفرض حلا أو حلولا من الخارج. وتمنّع طرف عراقي مهم في التركيبة السياسية العراقية القائمة، جعل المبادرة تتوقف، ومباشرة نشطت القوى المتحجرة لتعيث في الأرض العراقية فسادا فوق فساد، فجاءت اغتيال عراقيين أبرياء في مقر دار عبادتهم، ثم كرّت سبحة التفجيرات، واحدة بعد أخرى، حتى ذبلت شعلة التحسن في الحالة الأمنية التي كانت تقاوم أعاصير التطرف وكاد يحل الظلام.

استمرار الحال المضطرب على ما هو عليه سوف يعكس مقولة السفير العراقي في الكويت بأن دول الجوار غير راضية عن الحالة «الديمقراطية» في العراق، بل إن هذه الحالة دون توصيف، تعرض أمن دول الجوار - وخصوصا تلك التي لا تتدخل بشكل نشط في العراق - على المدى المتوسط لخطر داهم وفي المدى القريب لتسمم طائفي بغيض.

قد تفوت فرصة مد حبل الوفاق وصولا إلى اتفاق في العراق بسبب قصر النظر السياسي، وقد تتطور «قاعدة بغدادية» جديدة وتنحو إلى أشكال خطيرة من النزاع الأهلي، الذي يمكن أن يأكل الأخضر واليابس، وتنشط قوى التطرف ونشهد من جديد التطهير المذهبي والديني والعرقي، بسبب طموحات بعض أفراد، لم يتمكن العراق من حمل طموحات من كان أشد منهم قوة وأكثر عسفا.