جريمة مشتركة

TT

هل دق الناقوس الأخير في عملية «إخلاء» العالم العربي من المسيحيين فيه؟ مع المشاهدات المفجعة التي تناولتها وسائل الإعلام عن أحداث قتل المسيحيين العراقيين بكنيسة النجاة ببغداد، يبدو أن سؤالا عريضا كهذا يستحق الطرح، ومن المهم جدا الإجابة عنه بوضوح. تنظيم القاعدة بفعلته الإرهابية توجه إلى نقطة «رخوة» Soft Spot في العالم العربي، منطقة انتماء الأقليات الدينية والعرقية إلى منظومة المواطنة في البلدان العربية، وهو ملف شائك ومعقد.

الخروج المسيحي الكبير من بلاد الشام كان في القرن التاسع عشر أيام الخلافة العثمانية وبشكل أساسي كان الخروج من موارنة جبل لبنان باتجاه العالم الجديد، الأميركتين الشمالية والجنوبية. وبعد الحرب العالمية الثانية حدثت تحولات مهمة في خارطة الوجود غير المسلم في الدول العربية وبدأ الخروج اليهودي الذي أسهمت في تشجيعه، بقوة، الوكالة اليهودية للإغاثة، وذلك لزيادة تعداد اليهود في دولة إسرائيل الجديدة وقتها, وبصورة غير مباشرة أثر الصراع العربي - الإسرائيلي على حالة الأمان والاستقرار التي كان يحياها المسيحيون في المشرق ووصلوا خلال هذا الاستقرار إلى أعلى المناصب السياسية وأهم النجاحات في الاقتصاد والثقافة والأدب وغيرها من المجالات الحيوية، فالعرب، من جهة، «شككوا» في انتماء المسيحيين للعرب وأنهم ذيول للعالم الغربي في المنطقة، وإسرائيل كانت ترى أن المسيحيين العربي، خصوصا الموجودين في فلسطين، يشكلون إشكالية كبيرة في مواجهتها مع العالم العربي والمتطرف دينيا فهي لا يمكن «تسويق» قضيتها للعالم أنه تواجه «متطرفين» بوجود كم كبير من المسيحيين وسطهم؛ لذلك بدأ مشروع التهجير المغري للفلسطينيين، خصوصا باتجاه تشيلي في أميركا الجنوبية؛ حيث توجد أكبر جالية للفلسطينيين المسيحيين في العالم اليوم.

ولكن الخطاب المسيحي الديني الرسمي «يغفل» ذكر الدور الإسرائيلي المهم في العمل على الخروج المسيحي الكبير من العالم العربي، وظهر ذلك جليا في فلسطين ولا يزال، تماما كما ظهر إبان الحرب الأهلية في لبنان بدخول إسرائيل بشكل مباشر على الخط السياسي الماروني وإيقاد نار الفتنة بين الأطراف المقتتلة بمهارة وإتقان.

ومع شديد الأسف كانت تصريحات البطريرك نصر الله صفير الأخيرة، بعد انعقاد السينودس الفاتيكاني لمسيحيي المشرق، توجه أسهم اللوم إلى الحكومات العربية وحدها والإنكار التام للدور الإسرائيلي القذر في مؤامرة إخراج المسيحيين من المشرق، وكذلك الأمر كان بالنسبة للبابا شنودة، رأس الكنيسة القبطية في مصر.

المسلمون هم أكثر الناس ابتلاء بما اقترفه المتطرفون منهم، وهم الذين يدفعون فاتورة هذا التطرف يوميا من رصيد حساب أمنهم واقتصادهم واستقرارهم، يدفعون ثمن أفكار هوجاء لا علاقة لها بكتاب الله ولا بحياة نبيه محمد (عليه الصلاة والسلام)، ولكنها آراء موتورة من أنصاف علماء عممت بالقوة وباتت تراثا يقدس وعلما يدرس.

ولكن المسلمين مطالبون بحماية أهل الكتاب واحتوائهم في أوطانهم، تماما كالمدافع عن ماله وعن عرضه.. هكذا أمر الدين، والأمثلة من الممارسة الفعلية لحياة الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) وصحابته تؤكد هذا الكلام.

مؤامرة تهجير المسيحيين وإخراجهم من عالمهم العربي هي مسألة دنيئة يشارك فيها أطياف مختلفة، منها ما هو ظاهر وفج مثل عصابات «القاعدة» وأذيالها، ومنها ما هو خفي ودنيء مثل أجهزة استخباراتية معروفة، والاثنان على الدرجة ذاتها من الجرم. بقي هم تطهير التراث من الغث المنادي بمحاربة أهل الكتاب في مسألة باطلة ولا أساس لها من الشرع.

[email protected]