السلطة الفضائية

TT

ليس في هذا العنوان غلطة مطبعية ولا نقطة ناقصة، السلطة الفضائية مصطلح جديد يتردد في كافة أنحاء العالم ولغاته الحية. وهو من مفردات ثورة المعلومات الرقمية التي لا تزال في بداياتها برأي كثير من خبرائها.

لغة القانون والحكومات تقول بوجود سلطة تشريعية وسلطة قضائية وثالثة تنفيذية، ويضيفون إليها سلطة معنوية هي السلطة الرابعة - أي الإعلام والصحافة - التي تسمى أحيانا «صاحبة الجلالة» لسطوتها وقوتها وقدرتها في التأثير على السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. لكن سلطة جديدة تفرض نفسها وبقوة الفاتح الذي لا يقف في طريقه أسوار ولا موانع، مدججة بسلاح الإنترنت وممتشقة سيوف التكنولوجيا: إنها السلطة الفضائية.

وسط ذهول العالم من ثورة الإنترنت، تفاجئ هذه الثورة الجميع بكل جديد، فبعد المدونات والمواقع الخاصة والشخصية و«الفيس بوك» و«تويتر» و«ماي سبيس»، وبعد «اليوتيوب» والموسوعات المعرفية، دخل على الخدمة مخلوق جديد اسمه الـ«ويكيليكس»، وهو موقع عمره سنوات قليلة، لا يمت بصلة لموقع الــ«ويكيبيديا» من قريب أو بعيد، وقد أعلن موقع الـ«ويكيبيديا» براءته من أي علاقة له بالمولود الجديد.

بدأ موقع الـ«ويكيليكس» الخدمة الفعلية بدايات عام 2007، ويعطي لأي كائن من أي مكان الحرية في الدخول ونشر الوثائق والصور والأفلام التي يمكن أن تفضح الانتهاكات لحقوق الإنسان وخروقات القانون الدولي. بدأت بكينيا وفظائع اقتتالها مرورا بفساد ساستها، وانتهت بـ400 ألف وثيقة حول الفظائع التي ارتكبت في حرب العراق.

حاولت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) وقف نشر وثائق عن الحرب في أفغانستان، ففشلت، وحاولت طمس حقائق فظائع خلفاء صدام فأخفقت. وقد تمترس أصحاب الموقع بالتكنولوجيا ومحاولة حماية الحاويات الرقمية (السيرفرز)، وآخر الأخبار أنهم لاذوا بالسويد، تجنبا للملاحقة القانونية لأن القانون السويدي يمنع الكشف عن هويات أو مصدر معلومات المواقع ما دامت تنشر أشياء لا تخالف القانون السويدي، وهو غائب تقريبا في مجالات النشر وحرية المعلومة.

الحكومة العراقية، وقبلها الأفغانية والكينية، ومن ورائهم جميعا الحكومة الأميركية، جن جنونهم، وحاولوا ولا يزالون، طمس هذا الموقع، وجندوا له أبرع «الهاكرز» لاختراق الموقع وضربه وقد اختفى الموقع وحجب في كثير من الدول من بينها العراق طبعا، ويتكرر حجب القائمين عليه للموقع ذاتيا لعدم توفر التمويل، نعم لعدم توفر التمويل، هكذا يكتب بين فترة وأخرى، حيث يناشد الموقع الباحث عن الحقيقة، أن يتبرع للموقع لحمايته من الضغوط والخضوع للتهديدات.

لقد أعلن الـ«ويكيليكس» حربا فضائية مع طغاة الأرض، ومع كل من يتحكم في المعلومات وتسريبها ونشرها للعامة، وتعرض مؤسس «ويكيليكس» الأسترالي جوليان أسانغ للملاحقة القانونية بأميركا وأستراليا، ولا يزال الجندي الأميركي برادلي ماننغ يقبع في السجن بعد اتهامه بتسريب فيلم يصور قتل مدنيين عراقيين بطائرة هليكوبتر أميركية. إن الحرب الجديدة التي يخوضها «ويكيليكس» هي معركة في سلسلة من المعارك السرمدية عبر التاريخ بين إشاعة أو نشر المعلومة وبين حجبها، وهي حرب لن تتوقف عند الـ«ويكيليكس» ولن تنتهي بنصر مؤزر لأحد الطرفين، فهذه الحرب هي حرب «يوم بيوم»، كلما تطورت وسائل التكنولوجيا، حملت معها أخطار الطموح لحرية المعلومة والمعرفة، وكلما تعددت أساليب الحجب، أبدع المبدعون بفتح آفاق جديدة للالتفاف على حجب المعلومة وهكذا. يكفي لفهم طبيعة هذه الحرب أن البنتاغون هو أول من طور الإنترنت للتواصل العسكري السري، فأصبح متاحا، بل حق للجميع في بلدان أوروبية متطورة. وتدور الأيام ليتحول الإنترنت إلى سلاح في وجه من اخترعه وطوره، فيحاول البنتاغون اليوم حجب موقع الـ«ويكيليكس» لنشره وثائق الدفاع الأميركية.

أيها الطغاة، اربطوا الأحزمة فالسلطة الفضائية قادمة!!