عبقرية الشر: ضعف الأساس وقوة البناء

TT

لكل بناء أساس قوي قادر على حمله قائما ربما لمئات السنين. لكل حزمة أفكار أساس نظري يبقي هذه الأفكار مترابطة ومتماسكة وقادرة على النفاذ والتعامل مع عقول البشر. وفي المسرح يقوم بناء المسرحية على ما يسمى بالمقدمة المنطقية وهي الأساس الذي تنبني عليه أحداث المسرحية بكل أثقالها وتعقيداتها. وفي كل أفعال البشر، وخاصة تلك التي تتسم بالشر المطلق ومنها حوادث الإرهاب بالطبع، أبحث عن آليات التفكير عند صاحبها لمعرفة الأساس النظري الذي انبنى عليه فعله، وهو ما يتيح لي التعرف على خصائص الأنا العليا أو الذات العليا «Super ego» عند المتطرف الإرهابي مع التسليم بأنه من الأصل، بحكم أفعاله، يمشي في طريق الشر المطلق ولا يكتفي بذلك بل يدفع الآخرين للسير في نفس الطريق.

وإذا كنا بشكل شبه غريزي نقدر أفعال الخير ونشعر تجاهها بالاحترام والامتنان غير أن ذلك يدفعنا وبشكل شبه غريزي أيضا إلى احتقار الشر والأفعال الشريرة. هذا الاحتقار ربما يكون هو السبب الذي يجعلنا نتخلى عن الحذر الواجب في مواجهته. لا بد أن نعترف أن الشر عند بعض زعماء الإرهاب، على قدر كبير من العبقرية، إنها عبقرية الشر التي تتفوق أحيانا في آلياتها على عبقرية الخير.

وبتأمل واقعة «طرد صنعاء» الذي ضبط في دبي وكان مقدرا له أن ينفجر في الجو فوق شيكاغو، نستطيع بسهولة التعرف على عنصر جديد في آليات التفكير عند المتطرف، وهو الضعف الشديد للأساس النظري في العملية ثم القوة وشدة الإحكام في البناء الذي أقيم عليها. الأساس النظري في العملية أو المقدمة المنطقية هو «إرسال طرد ملغوم من صنعاء إلى مكان ما في أميركا لينفجر في الجو وذلك عبر شركة طيران للشحن» وعند التنفيذ، أقصد عند تنفيذ البناء فوق هذا الأساس، تم اختيار طابعة كومبيوتر أخفيت فيها المتفجرات بدهاء داخل «خرطوشة» الحبر في الطابعة. وكأن شخصا يعيش في شيكاغو أرسل لأهله يقول لهم «إلحقوني يا جماعة.. الطابعة بتاعة الكمبيوتر باظت.. إبعتولي طابعة جديدة فورا بالبريد الجوي». تستطيع أن تتصور مدى غرابة الأمر وإثارته للشك إذا فكرت في أن مواطنا فرنسيا تقدم لشركة شحن جوي في باريس يطلب منها أن تشحن له طردا يحتوي على عدة كيلوجرامات من البلح أو التمر إلى الكويت. أو أن مواطنا روسيا يرسل بشحنة كشري لشخص ما في القاهرة. استخدام طابعة كومبيوتر كشحنة مطلوب نقلها من صنعاء إلى شيكاغو أمر مريب يكاد صاحبه يقول خذوني.. ولقد أخذوه بالفعل في دبي.

غير أننا عندما ننتقل إلى البناء ذاته فسنجد قدرا كبيرا من العبقرية، عبقرية الشر، ومنها اختيار نوع من المتفجرات لا تكشفه الوسائل العلمية الحديثة «راجع عبد الرحمن الراشد، عمود الخميس 4 أكتوبر 2010» ودراسة متعمقة لحركة الطيران للشركات التي تعمل في مجال الشحن الجوي، ثم الوصول إلى التوقيت الذي تنفجر فيه الشحنة فوق شيكاغو وقبل هبوط الطائرة على الأرض. هكذا نرى بكل وضوح في عملية واحدة، أساس نظري ضعيف وساذج إلى حد البلاهة ثم بناء قوي شديد الإحكام من التفاصيل التي تتطلب دراسة جادة وشاملة. والسبب في ذلك في تصوري أن آليات التفكير عند المتطرف الإرهابي ينقصها البعد النقدي. أو أن الجزء الناقد في عقله ضعيف للغاية بحيث يجعله عاجزا عن تبين أخطائه. الجزء الناقد في العقل البشري يدفعنا إلى درجة ما من نقد أفعالنا من أجل الوصول إلى الفكرة الصائبة على ضوء فكرة الآخرين عنا وعما نفعله. الجزء الناقد في العقل هو ما يدفعنا إلى السير في اتجاه الفكرة الصحيحة، والتفكير الصحيح من غير أن نوغل في الفلسفة، هو ما يدفع البشر للسير في طريق الخير الأسمى. الضعف الشديد لمحرك النقد عند المتطرف يفقده أبسط أنواع القدرة على التمييز العام وأقصد بها تلك التي تساعد حتى الأطفال على التمييز بين السخن والبارد.

العدوان هو أقوى غرائز البشر. ولآلاف السنين كانت وظيفة التربية والتعليم والحكماء والمصلحين والثقافة والفن بوجه عام، تقليم أظافر هذه الغريزة والحد من قوتها وذلك بشق المزيد من الطرق أمامها لتمشي فيها بسلام بما يحقق مصالح البشر. وهي عملية شاقة للغاية غير أنها حتمية لبناء حضارة البشر. ولكن عددا كبيرا من الناس في كل مكان على وجه الأرض عاجز عن التحكم في عدوانه أو قيادته في طريق لا يسبب أذى للآخرين، لذلك كانت السجون وقوانين العقوبات، أنا أعتقد أن السبب في ضعف الأساس النظري مع وجود عبقرية الشر في البناء عند المتطرف، هو أن غريزة العدوان عنده قوية إلى الدرجة التي تعطل فيها تماما محرك النقد داخل العقل.

كما أعتقد أن خطوات تتبع الطرد المحشو بالمتفجرات، بدأت في لحظة تسليم الطرد لموظف شركة الشحن في صنعاء أو بعدها بدقائق، لماذا يرسل مواطن يمني طابعة كومبيوتر إلى أشخاص في شيكاغو؟

أستبعد تماما أن يكون المسؤول عن مكتب الشحن في صنعاء في شركة «فيدكس» غبيا أو جاهلا أو متواطئا إلى الدرجة التي يرى فيها أنها عملية طبيعية. كما أعتقد أنه بعد لحظات من تسلمه للطرد بدأت أجهزة المعلومات في الخليج وأميركا وربما في نصف عواصم العالم في تتبع هذه الشحنة. بالطبع لا توجد بيانات مؤكدة عن مرسل الطرد والشائع أنها امرأة، والمرأة بالتأكيد في أماكن كثيرة في منطقتنا ليست مطالبة بأن تحمل بطاقة هوية، وهو ما يجب أن يدفعنا إلى اعتناق فكرة أن كل من يمشي على قدمين في بلادنا عليه أن يحمل بطاقة هوية. هو طرد من مجهول إذن. وفي الدقائق التالية تم الاستعلام عن أسماء المرسل إليهم في شيكاغو ليكتشفوا عدم وجود أشخاص بهذه الأسماء، بعض الكتاب تصوروا أن اختيارهم لاسمي شخصين من قادة الحروب الصليبية فيه لمسة مرح أو سخرية، الواقع أنهم ما زالوا يعيشون بالفعل في العصور الوسطى ويخوضون معاركها ضد الصليبيين. إن انفجار كنيسة في العراق بالإضافة لما يسمى أحداث الفتن الطائفية في مصر يؤكد ذلك. والله أنا أعرف أستاذا متطرفا معتدلا مستنيرا في مصر، واسع الانتشار على أوراق الصحف وشاشات الفضائيات، دائم الاستدلال بما كتبه مؤرخو الغرب ضد المسلمين في الحروب الصليبية، هو أيضا عجز عن مغادرة هذه المرحلة لأنها تمتعه.

نحن جميعا في حالة حرب. وهي حرب ليست خاصة بأجهزة الأمن والمعلومات وحدها، اليقظة والحذر مطلوبان في كل موقع من مواقع العمل.