أحصنة طروادة تتجول في شوارع بغداد

TT

دخل الحصان مدينة طروادة ودمرها من الداخل، ثم أصبح رمزا تاريخيا صالحا للاستعمال حتى الآن، فإذا لم تستطع أن تدمر القلعة من الخارج، فتش عن طريقة لتدميرها من الداخل.

وما يجري في العراق الآن ليس أن حصان طروادة قد دخلها وأصبح مستعدا لتدميرها. ما يجري في العراق الآن أكثر خطورة، إذ أن حصان طروادة لم يعد وحيدا، لقد أصبح مجموعة من الأحصنة. ولم تدخل هذه الأحصنة العراق من الخارج فقط، بل لقد أصبحت لها قابلية التوالد داخل العراق، وكل حصان يدخل، أو كل حصان يتوالد، يمثل بلدا أجنبيا، أو يمثل طرفا محليا يتحالف مع بلد أجنبي. ولم يعد المواطن العربي يدري إن كان حصان طروادة هذا غازيا أجنبيا، أو عراقيا يغزو من الداخل مستعينا بقوة الأجنبي، إنها صورة أسطورية، وهي أيضا صورة خرافية، وهي أيضا وأيضا صورة عبثية، تتراءى لك أحيانا كصورة امرأة جميلة، وقد تتكشف لك صورة المرأة الجميلة عن وحش مفترس، تماما كما في أفلام هوليوود.

في قلب هذه الصورة التي لا منطق لها، جاءت مبادرة الملك عبد الله، داعية العراقيين إلى القدوم إلى السعودية ليجلسوا تحت علم الجامعة العربية بحثا عن حل لمشكلاتهم، يبدأ بالبحث عن حل لمشكلة تشكيل الحكومة التي تعذر عليهم تشكيلها، حتى بعد ستة أشهر من المباحثات.

والغريب أن كل من لم يستطع أن يجترح حلا لتشكيل تلك الحكومة العتيدة، خرج على الناس شاهرا لسانه، يعلن معارضته للمبادرة. بعضهم قال إنه يعارضها لأنها جاءت متأخرة. متأخرة عن ماذا؟ لا أحد يدري. وبعضهم قال إنها جاءت لتخرب اتفاقا على وشك أن يتم. ويعنون بذلك أن حكومة كانت على وشك أن تشكل، فجاءت المبادرة السعودية لتوقف تشكيلها. وقال بعض آخر إن مبادرة كردية تشكل «خارطة للطريق» أطلقها مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، ودعت إلى اجتماع كل الأطراف العراقية عند طاولة واحدة، وإذ بالمبادرة السعودية تأتي وتعرض على الأطراف قاطبة، أن يلتقوا عند طاولة واحدة في مكان آخر. هكذا فإن طلب تغيير الطاولة أحبط المبادرة الكردية. وتلتقي كل هذه التأويلات حول جوهر واحد وهو أن السياسيين العراقيين لا يريدون حلا لمشكلتهم، ولا يريدون مساعدة لهم في حل مشكلتهم. وهم يدعون أن لديهم حلا سريعا وناجزا ولكن هذا الحل لا يراه أحد غيرهم.

وهؤلاء الذين يقولون هذا، والذين يتحدثون عن حلول لا وجود لها، والذين يستنكرون أن يقترح عليهم أحد ما محاولة للحل، هم كلهم من أولئك الخارجين من جوف الحصان، حصان كان يسمى حصان طروادة، وهو حصان يمكن الآن تسميته بما تشاء، لأنه حصان متكرر، ومتجدد، قادم من الخارج أحيانا، ومن الداخل أحيانا.

يروي أهل بغداد، أنهم شاهدوا أول ما شاهدوا، حصانا ضخما متعدد الرؤوس، ومتعدد الأرجل، يصهل بلكنة أجنبية غير مفهومة، وأنهم ذهلوا عندما وجدوه يلفظ من جوفه جنودا وبشرا ينطقون بلهجة عراقية يفهمونها. وقال لهم بعض هؤلاء الوافدين إن الحصان المرعب هو حصان أميركي الصنع، وإنه جاء برفقة عراقيين، بعضهم سياسيون، وبعضهم مفكرون، وبعضهم والعياذ بالله. بل إن بعضهم أبلغهم بأن للحصان اسما يعرف به، هو اسم جنرال في الليل، وهو اسم رجل في النهار يدعى «بريمر».

ويروي أهل بغداد، أنهم شاهدوا في مكان آخر، حصانا ذا ملامح مختلفة، يتسلل بهدوء، ومن دون ضجة، ويستقر في منطقة الشمال. وقال بعضهم إنه حصان قادم من أرض فلسطين، ولكن الهابطين عليه لا يتكلمون العربية، وحتى أنهم لا يتكلمون العبرية. والغريب أنهم يتحدثون لغات شتى، ينطقون أحيانا بالإنجليزية، وأحيانا بالفرنسية، وأحيانا بالروسية أو البولندية أو الليتوانية. وقالوا إنهم ليسوا أهل حرب، بل أهل استطلاع ومعلومات، وإنهم سيساعدون في البناء، بناء مطار وما شابه، وإنهم يحبون القنص، وإطلاق نار على نوع معين من البشر معروفين بسعة العلم والمعرفة.

ويروي أهل بغداد أنهم شاهدوا أيضا في مكان آخر، حصانا آخر، له ملامح أحسوا وكأنهم يعرفونها، وحين هبط رواد الحصان ذاك، أحسوا بأنهم يعرفونهم أيضا كأفراد، فملامحهم شبيهة بملامح أهل الحي. وكانت دهشتهم حين شاهدوا بعضهم يصلي، صلاة تشبه صلاة أهل الحي. ولكن مفاجأتهم كانت حين تحدثوا إليهم، ولم يستطيعوا فهم لغتهم. وقد تسلل أولئك الهابطون من هذا الحصان بهدوء بين الشوارع والأزقة، وما هي إلا ساعات حتى لم يعد أحد يدري أين هم.

ومع الزمن اختفت هذه الأحصنة من المناطق التي هبطت فيها، ثم تعوّد المواطنون على مشاهدتها وهي تظهر فجأة في مناطق أخرى. ومع الزمن اعتاد الناس على رؤيتها، تظهر هنا وتختفي هناك، ولكنها كانت ولا تزال موجودة.

وبرز من قال إن هذه الأحصنة قد تحولت إلى أحزاب، وإن بعض من فيها قد أصبحوا وزراء، وإن بعضهم أصبحوا إرهابيين يفجرون العبوات، وإن بعضا منهم برعوا في الاغتيال، والغريب أنهم جميعا شاركوا في الانتخابات، وأن أغلبيتهم الآن ترفض المبادرة السعودية.

إنهم يرفضون المبادرة السعودية لأنها لا تتحدث لغتهم. إنها تدعوهم ليتحدثوا لغة عربية واضحة، وهم يفضلون كما يبدو تلك اللغات التي ألفوا التحدث بها في السنوات السابقة.

لقد مضت سنوات على المنطقة العربية، وهي تفتقد إلى جهة تتحرك في الوقت المناسب، وتبادر في الوقت المناسب، إلى أن أطلق الملك عبد الله مبادرته لتناسي الخلافات في قمة الكويت، ثم بادر ومد يده نحو سورية، وتلاقت الأيدي في جهد مشترك، توجه أولا نحو لبنان، وفي لبنان يطل الخطر الإسرائيلي ويفرض نفسه على جدول الأعمال. وتفاءل الجميع خيرا بالتحرك العربي، وبتلاقي الأطراف العربية بعد طول غياب. وحين كان لا بد أن يتجه هذا التحرك نحو بغداد، علت أصوات الرفض العراقية. والغريب أنه في الوقت نفسه علت الأصوات الأميركية تهاجم سورية، وتنتقد محاولات الحوار في لبنان. وبالطبع فإن السعودية قادرة على أن تفهم معنى الانتقاد الأميركي وتوقيته، فهي لا تريد لأحد أن يتحرك خارج تكتيكها وتوقيتها، وهي تحول نفسها بذلك إلى حصان طروادي جديد، حصان متكرر بالطبع.

وهكذا.. وبينما تطل مبادرة الملك عبد الله على العراق، مدعومة من عرب كثيرين، تتجول أحصنة طروادة في شوارع بغداد، وهي ترطن بلغات كثيرة تغيب عنها اللغة العربية.