أقساه

TT

يطيب لـ«القاعدة»، بين حين وآخر، أن تذكرنا بأي نوع من أجزاء العالم نعيش. كلما حاولنا أن ننسى عدد البراكين الخامدة وتلك المشتعلة وما بينها من (فيفتي فيفتي)، تتطوع «القاعدة»، بأسلوبها السمح ومشعلها الحضاري المستقبلي، لترشدنا إلى مواقع السقوط والانهيار والرعب في جدران الأمة وأسوارها. أو ما تبقى منها.

العنف الذي حمل توقيع «القاعدة» ولهجتها في العراق، ما لبث أن تحرك دون توقيع بين أكوام الجثث في بغداد. وكنا لا نزال نلعن الاحتلال فيما انتخبت أميركا بكل هدوء وأعلن باراك أوباما قبول الهزيمة بكل رضا. فعل ذلك بعد لحظات من إعلان النتائج، فيما لا يزال حليفه نوري المالكي يرفض تبلغ نتائج انتخابات العراق بعد نصف عام. نحن المنطقة الوحيدة المشتعلة في العالم: أميركا الجنوبية خرجت من التخلف والانقلابات ودخلت مصاف الدول الصناعية. وآسيا تضع اللمسات الأخيرة على إنشاء أضخم عمالقة التاريخ: الهند، الصين، وإندونيسيا. وأفريقيا نفسها تفكك نقاط النزاع الأزلي حتى في رواندا. ونحن براكين متوالدة وصرخات في أودية.

شعوب معاقبة من دون أن تعرف ما هي خطيئتها. يكاد العراق برمته يصبح في الخارج، من دون أن يعرف بعد إذا كان الاحتلال أكثر تنكيلا به أم المناضلون على أنواعهم. وأقسى عقاب ينزل في شعب هو الحكم الصادر على اللبنانيين بأن يقرأوا أو يسمعوا تصريحات سياسييهم.

يعدد الناقد التلفزيوني في «النهار» جورج حايك، المفردات التي يستخدمها السياسيون: «الكلاب النابحة»، غبي، معوق، القبوط (الجندب)، و«مستخدم البوتوكس»، و«قفص الصيصان»، و«الجلابيط». وهناك طبعا «الواوية»، أي الثعالب، والسقايات، أو السحالي، وسائر أسماء الزحافات. وبعيدا عن السياسة هناك برامج النكات، وهي عبارة عن احتفاليات جنسية فاضحة لا وجود لها على أي تلفزيونات أخرى في العالم.

وبعد ذلك يرسل اللبنانيون أبناءهم إلى المدارس، ليأخذوا درسا في «التربية الوطنية» و«التربية المدنية». تصور تلميذا يسمع زعيمه يقول: «سكر بقك»، وفي اليوم التالي يلقي عليه معلمه درسا في آداب الخطاب وأصول المعاملة ودور التكاتف في حماية البلد. ترى ما خطيئة اللبنانيين حتى يحل بهم مثل هذا العقاب؟ ما ذنب العراقيين؟ ما ذنوب المرشحين للمصائر المماثلة؟ اتهمت طالبة يمينية بأنها وراء الطرود الملغومة المعدة للانفجار على طائرات شحن، فماذا كان رد فعل زملائها؟ تظاهروا مستنكرين. ليس الجريمة بل اتهام زميلتهم.

يطيب لـ«القاعدة» أن تذكرنا بحالات جمعية قابعة في حضن الأمة. بعقلية جماعية ترحب بقوانين الموت وثقافة الخراب وسعادة الانهيار. نحن المنطقة الوحيدة في العالم التي تنزلق بسرعة وسعادة واعتزاز إلى القرون الوسطى. جميع مناطق الكرة الأخرى خرجت أو هي في طريق الخلاص. أما نحن، فشعوب محكومة بالعقاب. أقساه، ظلم بعض سياسيي لبنان وقلة آدابهم.