وهل يجوز تقبيل رأس بن لادن؟

TT

لست ممن يفضلون الخوض في الجدل الديني، لكن بعض الفتاوى التي تظهر هنا وهناك، مؤخرا، باتت تمس مفاصل حيوية في حياتنا، وعلاقاتنا الاجتماعية؛ حيث بات يترتب عليها الكثير في عالم معقد لا يحتمل التبسيط.

آخر هذه الفتاوى المثيرة للجدل هو ما صدر في السعودية من تحريم لتقبيل رأس أحد الوالدين إذا كان يصلي أحيانا أو لا يصلي أبدا؛ حيث ارتأى من أفتى أن ذلك لا يجوز «لأن هذا من المحبة.. تقبيله من المحبة، فلا يجوز تقبيله، ولكن لا يمنع هذا من الإحسان إليه، الإحسان الدنيوي، أما مظاهر المحبة، كتقبيل الرأس ونحو ذلك، فهذا لا يجوز»، بحسب الفتوى.

وعليه، فإن السؤال هو: هل إذا عاث الإنسان بالأرض فسادا، من سرقة وقتل وإفساد وخلافه، لكنه محافظ على صلاته وصيامه، والشعائر كلها، فعندها يجوز لأبنائه أن يقبِّلوا رأسه، ويعظموا له المحبة؟ هل هكذا تقاس الأمور؟ فهل يجوز إذن القول إن على أبناء أسامة بن لادن أن يقبلوا رأسه ويجلوا له الاحترام والمحبة لأنه يصلي، مثلا، على الرغم من كل ما فعله بحق الدين والدنيا؟ أمر محير فعلا.

إشكالية هذه الفتاوى أكبر من إشكالية فتاوى أخرى مثل تحريم عمل المرأة في مهنة الكاشير، فتلك فتوى سيتجاوزها المجتمع بفعل الأمر الواقع، المدفوع بأننا أدرى بشؤون دنيانا، لكن فتوى عدم جواز تقبيل رأس أحد الوالدين إذا كان يصلي أحيانا، أو لا يصلي أبدا، فهي أعظم خطرا على الأسرة والمجتمع والدولة.

فمن شأن تلك الفتوى أن تجرئ الأبناء على آبائهم وأمهاتهم، وهذا أمر غير هين، فتجعل الولد حكما على سلوك والديه ومنهجهما، وتجعل الشباب عرضة للإغراء والتطرف من قبل آخرين يفسرون لهم الدين كيفما شاءوا. وهذا أمر رأيناه في مجتمعنا السعودي إبان انتشار بذور التطرف؛ حيث رأينا أصدقاء لنا هجروا منازل أهاليهم بعد أن ظنوا أنه لا يجوز البقاء فيها لما فيها من «ضلال» وانتهوا، للأسف، في غياهب كهوف أفغانستان، وغيرها.

ولا أنسى مقولة حزينة، ومعبرة، لأحد الآباء المكلومين بعد اندلاع موجة الإرهاب في السعودية؛ حيث قال متحسرا على ابنه الذي ضاع في أتون التطرف والإرهاب: «ربيته 18 عاما، وغيروه في 6 أشهر»! وكلنا يتذكر، بعد اندلاع موجة الإرهاب في السعودية، وبعدها بفترة ذهاب بعض الشباب السعودي للعراق، ما كان يقوله بعض الآباء والأمهات عن أنهم لا يعلمون عن أبنائهم شيئا منذ أشهر أو سنة، وكان الأبناء يذهبون إلى مناطق الهلاك مدفوعين بقناعة أن آباءهم على باطل، وأنهم بدلوا أهاليهم بمن هم أتقى وأصلح منهم!

وعليه، فإن المرء لا يملك اليوم، وسط هذا الجدل، إلا تذكير نفسه بقوله تعالى في محكم تنزيله: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا». صدق الله العظيم.

[email protected]