أعمى بصير.. وأعمى بصيرة

TT

لأول مرة لا أدري كيف أبدأ المقال وأدخل في الموضوع، خصوصا وأنا سأتحدث عن أعمى حاز على 103 ميداليات ذهبية، وقد يبدو هذا الكلام لبعضكم مجرد نكتة، ولكنه بالفعل واقع.

إنه يا سيداتي وسادتي كريغ ماكفرلين، الذي أصيب في حادث وهو في طفولته وفقئت من جرائه عيناه الاثنتان، وهو لا يتذكر في حياته من هذا العالم المشاهد غير مطرقة كان يلوح بها في يده، وقنفذ أخذه من حقل والده وخبأه تحت سريره، وهو ذكرني بطه حسين الذي لا يتذكر من عالمه غير سياج منحني في حقل بدأت تعصف به رياح الخريف، غير أن طه وصل فيما بعد لما وصل إليه من عدم اليأس والمثابرة.

وكذلك كريغ مثله مثل طه حسين لم يستسلم لإعاقته، ولكنه رضي بها وقبل التحدي، وأخذ يمشي وحده، ويتبع الأصوات ويستعمل يديه ويتحسس سبيله حول المنزل، وينمي (ذاكرته العضلية) - إن جاز التعبير - إلى الحد الذي أصبح في مقدوره الخروج مع أبيه لنصب شراك الصيد وحلب الأبقار وجز العشب وتجفيفه علفا للدواب، وكثيرا ما اصطدم بالأشياء، وكثيرا ما أوشك على الاستسلام كلما أرهقه الغضب والحرمان، غير أن إرادته الحديدية كثيرا ما كانت تنجده في آخر لحظة، لهذا رفض دائما استعمال العصا والاستعانة بكلب مرشد.

وأدخله والده مدرسة للمكفوفين، غير أنه بعد السنة الأولى تمرد عليها، وأصر أن يدخل مدرسة للمبصرين، واستهوته الرياضة البدنية، واختار المصارعة الحرة في البداية، لأنها تبقيه على لمس الأجساد وعلى الإحساس طوال المباراة، وتفوق على جميع من نازلهم في مدارس البلدة، وبعدها انتقل إلى السباحة والركض ورمي الرمح والقرص وحطم جميع الأرقام القياسية لمن هم في مثل سنه.

وأصبح له أصدقاء كثر واتسعت آفاقه، وفوق ذلك تعلم العزف على البيانو والغيتار، وبما أنه كان يتمتع بوسامة ملفتة للأنظار، وبخفة دم، وثقة بالنفس، ومنطق مذهل، فقد تهافتت الفتيات عليه، فأصبح من النادر أن يسير في الشارع أو يجلس في المقهى إلا وسرب من الحسان ملتفات حواليه. وأمسك تقريبا بالمجد من طرفيه، أي مجد الرياضة ومجد الفن، فهو في النهار رياضي في ميادين المباريات، وفي الليل مغن في مرابع الليل، وحقق في بطولة واحدة بكندا عشر ميداليات ذهبية دفعة واحدة، وكان هو الأعمى الوحيد بين عشرات المبصرين، وأمام جمهور لا يقل عن 23 ألف مشاهد.

وتنافست النوادي الليلية على استضافته ليحيي برامجها، لأنها تضمن أن مجرد كتابة اسمه في جدولها تجعل الأماكن تزدحم بمعجبيه، وبدأت الأموال تتقاطر عليه، من عشرات إلى مئات إلى آلاف إلى ملايين الدولارات، إلى درجة أنه اشترى لأهله منزلا في نيوجيرسي، ووضع لهم مبلغا محترما في البنك، وغدا دخله أضعاف دخل إخوانه المتعلمين الجامعيين، وأصبح في عام 1985 أحد مستشاري المجلس الرئاسي الأميركي للياقة البدنية والرياضية، وفي العام نفسه سجل كريغ رقما قياسيا جديدا غير مسبوق عندما انحرف 24 انحرافا مائيا في 40 ثانية فقط، وهو ما جعلني أتحسر على حالي، وأنا الذي أفترض أنني مبصر، وذلك عندما حاولت أن أخوض التزلج المائي في إسبانيا، وما أن سحبني القارب واستويت واقفا على أقدامي، وما هي إلا عشرة أمتار أو تزيد قليلا، إلا وأنا أسقط في الماء على وجهي، وأخذ القارب يسحبني خلفه منبطحا على بطني مئات الأمتار أو تزيد قليلا، وشربت يومها مرغما من ماء البحر دون مبالغة ما لا يقل عن لتر كامل أو يزيد قليلا، وكدت أن أغرق لولا أنهم من حسن الحظ تداركوني، وأخرجوني (وصلوني) - أي نكسوني رأسا على عقب - وأخذوا يضربونني على ظهري لإخراج ماء البحر من جوفي.

حقا إنني أعمى بصير ولا فخر، وهذا اعتراف مبطن.

[email protected]