المنطقة والفوضى الخلاقة!

TT

ما الذي يجري حاليا في منطقتنا؟ وهل يمكن فهمه أو فك ألغازه بعبارات قلائل؟ أنا مهووس بالوضوح وأريد أن أفهم. وقد ساعدني على هذا الفهم مؤخرا تصريحات السيد كوشنير في بيروت بعد زيارة البطريرك صفير، ومحاضرة الأمير تركي الفيصل في معهد كارنيغي للسلام بواشنطن. لا أقصد بذلك أن الرجلين متفقان على تحليل أمور المنطقة. على العكس، إنهما مختلفان تماما. فموقف المسؤول العربي المهموم بمصلحة الحق الفلسطيني والعربي بالدرجة الأولى غير موقف المسؤول الفرنسي المهموم بمصلحة إسرائيل وتثبيت أقدامها في المنطقة حتى قبل مصلحة فرنسا ربما.

مسكينة فرنسا! أين أنت يا ديغول بل وحتى يا بومبيدو وجيسكار ديستان؟ راحت تلك الأيام وراحت معها السياسة العربية الأصيلة والبعيدة النظر لفرنسا. وراح العرب، ربما، وإلا لما تجرأوا عليهم و«استوطوا حيطهم» على هذا النحو. يرى السيد كوشنير لا فض فوه أن التناقض الأساسي في منطقة الشرق الأوسط هو بين السنة والشيعة. الترجمة الحرفية لذلك: الصراع بين السنة والشيعة أخطر بكثير من الصراع بين العرب واليهود على فلسطين. اهتموا به قبل كل ما عداه بل أشعلوه وصبوا عليه النار لكي يشتعل أكثر فأكثر، ولكي تنسى الناس نهائيا قصة فلسطين التي تزعج الناس الحضاريين الراقيين جدا جدا، من أمثال السيد كوشنير وبقية المحافظين الجدد في الغرب الأوروبي - الأميركي - الإسرائيلي.

وهكذا يأخذ الوزير الفرنسي أحلامه وتمنياته على أساس أنها وقائع راسخة لا يرقى إليها الشك. الكارثة، وهذا ما يدمي القلب، هو أن متطرفي الشيعة والسنة يعطونه الحق أو قل يخلعون المصداقية على كلامه من خلال تصريحاتهم الطائفية البغيضة والمتخلفة بعضهم ضد بعض. انظر ما يفرزونه على الإنترنت والفضائيات من قيح الأحقاد المذهبية وصديدها ومن طعن للوحدة الوطنية في الصميم. لذلك قلت وأقولها ألف مرة: «القاعدة» وكل الأصوليات سنية كانت أم شيعية هي أكبر حليف موضوعي للصهيونية العالمية. لم تزدهر إسرائيل ولم تنتعش مثلما ازدهرت وانتعشت بعد 11 سبتمبر (أيلول). ولكن بانتظار أن تندلع هذه الحرب المذهبية وتحرق لبنان وسورية والعراق والخليج العربي وتتحقق آمال كوشنير ونتنياهو وكل المحافظين القدامى والجدد، دعونا نفكر ولو للحظة في الاحتمالية الأخرى.

وهنا نصل إلى محاضرة المسؤول العربي السعودي في واشنطن. إنه على عكس كوشنير يرى أن السبب الرئيسي لتأزم المنطقة ليس الصراع السني - الشيعي وإنما الصراع العربي - الإسرائيلي ورفض اليمين الصهيوني لمبادرة السلام العربية المعروضة بكل سخاء على الغرب وإسرائيل منذ عام 2002. كما ويعود التأزم أو قل الانسداد التاريخي إلى إصرار إسرائيل على الاستيطان الذي ينبغي أن ندعوه بالاستعمار بالمعنى الحرفي للكلمة.

ويهاجم الأمير تركي الفيصل هنا فلسفة المحافظين الجدد ومعه الحق. فالواقع أنها أوصلت المنطقة إلى حالة من الفوضى غير الخلاقة بل وغير الأخلاقية بالمرة. هناك فوضى خلاقة من دون شك ولكن ليست هذه. هذه فوضى مفتعلة بل وشريرة هدفها تفجير كل عصبيات المنطقة من أجل تفتيتها لا من أجل توحيدها على أسس جديدة تتجاوز العصبيات القديمة الضيقة كما كانت ستفعل الفوضى الخلاقة. ثم إن التركيز على إيران، كما يقول تركي الفيصل، ما هو إلا تشتيت للانتباه وصرف للأنظار عن الموضوع الرئيسي: أي مشكلة بلع فلسطين كلها من قبل اليهود. لذلك عندما تسمع مسؤولا غربيا يتحدث لك عن إيران وخطرها الماحق فافهم فورا أنه يريد أن يصرف نظرك عن الخطر الإسرائيلي أو يجعله نسبيا جدا جدا. هذا لا يعني بالطبع أن إيران لا تشكل خطرا أو ليست لها ميول توسعية ورغبات في الهيمنة. ولكنه يعني أن هناك إرادة غربية لتفجير كل تناقضات المنطقة من طائفية ومذهبية لمصلحة أن يستريح طرف واحد ويتنفس الصعداء هو: إسرائيل. ومن أجل سواد عيون إسرائيل كل شيء يهون..

ونفهم من كلام الأمير العربي أن نية أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون طيبة في الأساس ومضادة للمستعمرات، ولكن تيار المحافظين الجدد لم يلق سلاحه بعد. بل إنه عاد إلى الظهور من جديد مؤخرا وربما حرف السياسة الأميركية عن مسارها الصحيح الذي رسم خطوطه العريضة الرئيس أوباما في خطابه الشهير بجامعة القاهرة. فهناك أصوات تدعو علانية إلى إجبار الفلسطينيين على القبول بالمستوطنات وترك إسرائيل تفعل ما تشاء بحجة أن الأولوية هي لمواجهة إيران التي أصبحت تشكل الخطر الأكبر على العرب وإسرائيل في آن معا! وهنا يختتم الأمير كلامه قائلا: إن إيران تشكل خطرا ولكن آخر ما يريده العالم هو «حرب محافظين جدد» جديدة..

في الختام لا يسعني إلا أن أشيد بتصريحات شيخ الأزهر المستنير والمسؤول الدكتور أحمد الطيب. فهو على عكس شيوخ التعصب والظلام يقلل كثيرا من خطورة الخلاف اللاهوتي السني - الشيعي لأن النبي واحد والقرآن واحد واللغة واحدة وأركان الإسلام واحدة. بقي أن بعضهم يفضل علي بن أبي طالب للخلافة والبعض الآخر يفضل أبا بكر أو عمر. وهذه مسألة ثانوية في نهاية المطاف. إنها تخص فروع الدين لا أصوله. فكلهم فاضل وأفضل، رضي الله عنهم جميعا. وبالتالي «كبرها بتكبر وصغرها بتصغر». ولله الأمر من قبل ومن بعد. وحتى برنارد لويس الذي لا يمكن اتهامه بأنه يريد بالعرب والمسلمين خيرا اعترف بأن الخلاف السني - الشيعي أقل بكثير من الخلاف الكاثوليكي - البروتستانتي داخل المسيحية. ولكن ماذا يفعل شيوخنا الأشاوس؟ إنهم يكبرونه ويضخمونه حتى ليكاد يتحول إلى سور الصين الكبير الذي يفصل نهائيا بين الطرفين ويحولهما إلى دينين مختلفين كليا لا إلى مذهبين متفرعين عن نفس الدين. «يا ظلام الجهل خيم إننا نهوى الظلاما..» اللهم قد بلغت!..