من يغتصب روح الشرق؟

TT

قبل يوم واحد فقط من المجزرة الوحشية التي ارتكبتها قوى الإرهاب ضد المصلين في كنيسة «سيدة النجاة» للسريان الكاثوليك، في حي الكرادة، بوسط بغداد، وقع اعتداء إرهابي مماثل، حرق فيه المستوطنون اليهود الكنيسة المعمدانية الواقعة في شارع الأنبياء، في القدس العربية المحتلة، بعد أن قاموا بحرق الكثير من المساجد، وقتل المصلين فيها، ضمن الجرائم التي يرتكبونها لتهويد فلسطين.

أحد الرعاة في الكنيسة المعمدانية، السيد زكريا الشرقي، قال: «إن مجموعة من المستوطنين الإسرائيليين كسروا النافذة الخلفية للكنيسة المكوّنة من طابقين، وألقوا زجاجات حارقة، أدت إلى حرق الطابق الأرضي بجميع محتوياته»، وقد بنيت الكنيسة المعمدانية في القدس عام 1897، وكانت تضم الكلية الإنجيلية الفلسطينية حتى عام 1948، حين قامت عصابات إرهابية صهيونية بطرد الكهنة من الكنيسة خلال حملة التطهير العرقي التي رافقت تأسيس إسرائيل. وليس هذا هو الاعتداء الإسرائيلي الوحيد على الكنائس، والمساجد، في فلسطين المحتلة، بل إن قتل المصلين في بيوت الله هو ممارسة إجرامية اعتادتها المجموعات الإرهابية الصهيونية منذ أكثر من سبعين عاما في فلسطين.

لم أرَ أي تغطية إعلامية أو إدانة سياسية للجريمة التي ارتكبها المستوطنون اليهود ضد الكنيسة المعمدانية في القدس، الذين أحرقوا طابقا بأكمله مع كل محتوياته، ولم تصدر إدانة واحدة من أي منظمة دولية، أو غربية، أو حقوقية في أي مكان في العالم، الأمر الذي يعني أن مثل هذه الجريمة مقبولة ومستساغة، إذا كان مرتكبوها مستوطنين يهودا، وهي مدانة إذا ارتكبها إرهابيون آخرون. هذه الازدواجية تشجع الكيان الصهيوني على الاستمرار في جرائمه هذه، الرامية إلى تهجير المسيحيين من فلسطين والشرق، وتشديد الفتنة بين أتباع الأديان السماوية الذين يعبدون إلها واحدا، ويتعايشون على هذه الأرض بمحبة ووئام منذ آلاف السنين، إلى أن أتت العصابات الإرهابية الصهيونية وبدأت بنشر حملات التفجير، والمجازر، والاغتيال، والحروب في الشرق الأوسط كله، من فلسطين إلى أفغانستان شرقا.

ومع تهجير الصهاينة لملايين الفلسطينيين بالمجازر الوحشية منذ أربعينات القرن العشرين، بدأ عدد المسيحيين في فلسطين ينخفض إلى مستوى غير مسبوق لأول مرة منذ 14 قرنا من التسامح والعيش المشترك. كما أن قيام إسرائيل بعملية زعزعة استقرار لبنان التي أدت إلى نشوب الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، وما تلاها من عنف أدى إلى تهجير المسيحيين من لبنان، وهذا ما يحدث في العراق منذ عام 2003 حيث تقوم اليد الإسرائيلية بزعزعة استقراره لأهداف تتعلق باستراتيجية الهيمنة على الشرق الأوسط.

إن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين، لا تفرق بين مسلم ومسيحي؛ فالشهداء والأسرى والمعتقلون هم دائما من المسيحيين والمسلمين، وها هم المستوطنون يواصلون إرهابهم ضد المسلمين والمسيحيين بعد أيام من إحراقهم الكنيسة المعمدانية في القدس، بالاعتداء على قبر النبي يوسف في مدينة نابلس تحت حماية جنود الاحتلال الإسرائيلي، بينما تستمر الاعتداءات على المساجد وإحراق المصحف الكريم. وقد اشتدت منذ حرب بوش على العراق هذه الجرائم التي يرتكبها الصهاينة في فلسطين والعراق ضد المسيحيين العرب، واشتدت أكثر منذ صدور توصيات السينودس السادس لمسيحيي الشرق المنتمين إلى الكنيسة الكاثوليكية التي عكست بمضمونها «التنديد بالعنف والإرهاب وبكل تطرف ديني وشجب كل أشكال العنصرية واللاسامية والإسلاموفوبيا»، داعية المسيحيين إلى «التمسك بأوطانهم وأرضهم»، وخاصة بعد تأكيد السينودس «أن المسيحيين مكون أساسي من مكونات شعوب المنطقة، وعلى ضرورة مشاركتهم الفاعلة في حياة بلدانهم السياسية والثقافية والاقتصادية في إطار الاحترام المتبادل والحوار المستمر مع أبناء الأديان الأخرى، وخصوصا مع شركائهم المسلمين».

ويتفق المسلمون الذين عاشوا في أجواء التسامح مع المسيحيين واليهود طوال 14 قرنا مع هذا النهج، فقد تميز الإسلام دوما باحترام الديانات الأخرى والتعايش معها، لا بل إن المسلمين عرفوا بالتسامح مع فئات تدين بأديان ما قبل اليهودية والمسيحية والإسلام، وما زالت تعيش في بلاد الرافدين منذ آلاف السنين مثلا، كالصابئة، الذين يمارسون حرياتهم الدينية ويمارسون مهنهم التاريخية منذ آلاف السنين، ولم يتعرضوا للضغوط والتهديد والاعتداء، إلا بعد الاحتلال الأميركي للعراق. وكذلك شأن المسيحيين والكنائس في العراق، التي لم يتم التعرض لها منذ تأسيسها الأول، على الرغم من كل التقلبات السياسية التي شهدها هذا البلد المدمى.

وقد أدى صمت أصدقاء إسرائيل وحلفائها في الغرب عموما عن إدانة هذه الجرائم الإرهابية، التي ارتكبتها العصابات الصهيونية ضد الكنائس والمساجد والمصلين، مسلمين ومسيحيين، في فلسطين، المتواصلة منذ أكثر من ستين عاما، إلى نقل جيوش بوش الغازية هذه العدوى إلى العراق وأفغانستان وباكستان، وغدا سينشرون ذلك حيثما يحلون، خاصة أن بلدان المنطقة جميعها مستهدفة، ولا ننسى صورة الجنود الأميركيين وهم يبيدون بدم بارد وأمام كاميرات التلفزيون الجرحى من المصلين في أحد مساجد الفلوجة.

وفي الوقت الذي تم فيه تصنيف الهجوم على كنيسة سيدة النجاة كعمل إرهابي، وهو عمل إرهابي شنيع مدان دون شك، لم تتم تسمية الاعتداء على أي مسجد، بما فيه المسجد الأقصى، في القدس، أو أي كنيسة من قبل المستوطنين، أو قوات الاحتلال بالعمل الإرهابي. والخلاصة هي أنه إذا لم يقف الغرب ضد الجرائم البشعة التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي يوميا، ضد أتباع الديانات السماوية من مسلمين ومسيحيين، فإن هذه الجرائم سوف تنتقل بالعدوى إلى إرهابيين آخرين يبثون سموم الفرقة والعنصرية بين من عاشوا بمحبة ووئام وتسامح لآلاف السنين.

وهنا يمكن الجزم بأن الصهيونية لا تمثل خطرا فقط على المدنيين الفلسطينيين العزّل الذين تعاملهم بإهانة، وتقودهم إلى سجونها المظلمة، وتغتالهم أمام عدسات الإعلام «الحرّ»، بل تشكل خطرا على مفهوم التعايش والتسامح والسلام في الشرق الأوسط، الذي قدم، على مر التاريخ، أنموذجا للعيش المشترك بين أتباع الديانات والطوائف والمذاهب المختلفة طوال آلاف السنين. أوَلم يولد المسيح عليه السلام في الشرق في بيت لحم؟ أولم يُسرَ بسيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؟ أولم ينطلق بولص الرسول من دمشق حاملا معه رسالة المسيح وناشرا المسيحية في العالم برمته؟

من هم هؤلاء الذين يريدون إفراغ الشرق من مسيحييه، كما أفرغوا بلدانهم من اليهود؟ ومن هم الذين يعتدون على المساجد والكنائس لدب الفرقة التي لم تكن موجودة يوما هنا بين المسلمين والمسيحيين، إلا بعد قيام إسرائيل، التي لا تغتصب الأرض المقدسة في فلسطين فقط، وإنما انتقلت اليوم إلى اغتصاب روح الشرق المتسامحة، ونعمة العيش المشترك في هذا الشرق المسالم، الذي يمثل التعايش فيه أحد أهم أوجهه الحضارية المضيئة، الذي يتعرض للحروب، والمجازر، والتعذيب، والتعصب، منذ قيام إسرائيل وبشكل متصاعد لحد اليوم.

ومن هذا المنطلق، فإن التصدي لهذه الجرائم الصهيونية في فلسطين، هو واجب كل إنسان حر، ليس دفاعا عن العيش المشترك في فلسطين وحسب، بل ودفاعا عن التسامح والعيش المشترك، والسلام في الشرق الأوسط. وكما أن جريمة قتل المصلين الأبرياء في كنيسة سيدة النجاة ببغداد هي عمل إرهابي مدان، فإن أي مساس بأماكن مقدسة، إسلامية أو مسيحية، وبمصلين مسلمين أو مسيحيين يعبدون الله، هو عمل إرهابي يجب أن يدينه العالم كله، سواء كان هذا في المسجد الأقصى، أو في الكنيسة المعمدانية، أو في أي بيت من بيوت الله في فلسطين، والعراق، وباكستان، وأي مكان في العالم.

لقد أصبح الصمت عن جرائم الكيان الإسرائيلي خطيرا على عيش وحرية وأمن وسلامة البشر في كل مكان، فهل ثمة من يقرأ قراءة صحيحة العلاقة بين الكنيسة المعمدانية في شارع الأنبياء في القدس، ومزار النبي يوسف في نابلس، وكنيسة سيدة النجاة في حي الكرادة بوسط بغداد؟