مفجر نفسه

TT

هو وداد أجار، 24 عاما، الابن الرابع لأسرة تضم 11 ولدا. الشهادة الابتدائية كانت نصيبه من التعليم. أصيب بمرض «بهجت» كما يسميه الأتراك، أو مرض التهاب الأوردة والمفاصل، كما ذكرت التقارير. قيل له اذهب واجلس أمام جهاز التلفزيون سنعطيك الأوامر مشفرة من هناك.. أين؟ متى؟ وكيف؟

طعامه الأخير كان 3 أرغفة لحم بعجين، طلبها من عامل المطعم، الذي أهداه في صباح اليوم التالي المظلة التي كان يحملها في يده وهو في طريقه لتفجير نفسه، ربما ليس لأن الجو كان مشمسا، بل لأنه لن يحتاجها بعد ذلك، فهو مشى واضعا يده في جيبه يتأكد أن حبة السيانور بين الأصابع لتحميه من الاعتقال والسجن عند الفشل. كبس زر العبوة التي كان يحملها، لكنه لم يكن يعرف أنه سيكون القتيل الوحيد فيها.

لو لم يسارع «صقور حرية كردستان» في اللحظة الأخيرة لتبني عملية تفجير إسطنبول، لكنا صدقنا فعلا رواية التحرك المنفرد لأجار الانتحاري، الذي وصف بأنه غرد خارج السرب وخطط ونفذ على حسابه، كما قال أكثر من صوت في حزب العمال الكردستاني.

فكما استنكرت قيادات حزب السلم والديمقراطية التفجير الذي يهدف لقطع الطريق على المرحلة السياسية الجديدة التي تشهدها البلاد في التعامل مع المسألة الكردية، استغرب حزب العمال هو الآخر أن يتهم بالوقوف وراء هذا العمل التحريضي بعد قراراته المعروفة بعدم استهداف المدنيين، وفيما كان يعد نفسه للإعلان عن قرار تمديد وقف النار والعمليات الهجومية، إفساحا في المجال أمام جهود الحوار المتواصلة، وبانتظار انتخاب البرلمان التركي الجديد في مطلع الصيف المقبل. التقارير الأمنية الرسمية التي وزعتها أنقرة وجاءت في أعقاب قراءة مطولة في الذاكرة المعلوماتية والأرشيفية المتعلقة بمنفذ الهجوم وصلت إلى أكثر من دليل يؤكد انتساب الانتحاري إلى حزب العمال، وربما هذا ما دفع «صقور الحرية» للإعلان عن مسؤوليتهم والإيحاء بوجود انشقاق في صفوف العمال بين جناحي «إيمرالي» معتقل عبد الله أوجلان، و«قنديل»، حيث تتمركز قيادات الحزب القادرة على التأثير في الكوادر وتوجيه مسار الأمور كما تشاء. وأن سبب الخلاف هو قرار وقف النار وتجميد العمليات ضد القوات المسلحة التركية، مع أن الكثيرين يعرفون أن الجناح المنفذ هو الجهاز المكلف بإعداد وتدريب عناصر عمليات التلغيم والتفجير في حزب العمال.

هو ثالث هجوم من نوعه ينفذ في ميدان «تقسيم»، الشريان الحيوي الأهم لمدينة إسطنبول، بعدما شاء القدر في اللحظة الأخيرة أن يجنب المنطقة كارثة حقيقية بالدخول على الخط للحؤول دون انفجار العبوة الأساسية التي كان يحملها المهاجم في حقيبة على ظهره. رد الفعل الأول لرجب طيب أردوغان: «لن نتراجع عما بدأنا به بسبب عمليات من هذا النوع، ولن ننسى بمثل هذه السهولة أن تركيا تركت وحيدة في المواجهة» جاء بمثابة الرد في اتجاهين: المضي في خطة الحوار الداخلي للبحث عن حلول تنهي إراقة الدماء، ووقف العنف في الموضوع الكردي، وتذكير العواصم الغربية بأن أنقرة تعرف تماما أن هذه العواصم تكيل بمكيالين وتعتمد ازدواجية في المعايير خلال التعامل مع هذه المسألة.

الشبهات حامت حول «القاعدة»، ومجموعات يسارية تركية متطرفة سبق أن نفذت أكثر من عملية من هذا النوع في المدن التركية، لكن الأصابع توجه مرة أخرى نحو تلزيم هذه العملية لـ«أجار وشركائه» وكأنها تنفذها نيابة عن قوى محلية أو أجنبية تتعارض مصالحها مع السياسات التي يتبناها حزب العدالة، وربما تريد توريط حزب العمال بها لتصيب عصفورين بحجر واحد، وتفجر الصراع مجددا بين الجانبين، لصالح تراجع لغة الحوار والعودة إلى لغة السلاح والعنف الذي أودى بحياة الآلاف حتى الآن.

بعد ساعات على التفجير وإنجاز جمع الأدلة في المكان، رفعت الشرطة حواجزها وتدابيرها الأمنية وعادت الحياة إلى طبيعتها في أهم شرايين إسطنبول التجارية والسياحية. حكومة العدالة تصر على أنه الرد الأقوى لمواجهة عمليات قتل وتفجير من هذا النوع، هو التمسك بعدم التراجع والاستسلام أمام هذه الأساليب.