متى يكتسب الانقلاب العسكري الشرعية؟

TT

بعد مرور أكثر من خمسين عاما، لا يزال سياسيون عراقيون يسمون حركة 1958 «ثورة الرابع عشر من يوليو (تموز) المجيدة»، تلك الثورة التي قادها آمرون عسكريون، وساندهم وطبل لهم غوغاء ورعاع. ومع أن أولئك القادة العسكريين من الرتب المتوسطة ارتكبوا إثما، بصرف النظر عما يوصف بالنوايا الطيبة، فقد تعففوا خلال فترة حكمهم، ولم يثروا، ولم يفسدوا لا سياسيا ولا ماليا ولا أخلاقيا، كما فعل آخرون ممن أعقبوهم خلال أكثر من نصف قرن. لكنهم أشاعوا بتصرفاتهم، الاضطراب السياسي والأمني في بلاد ما بين النهرين، وكان انقلابهم بداية الانحراف المدمر في تاريخ العراق الحديث.

«ثورة تموز المجيدة» كانت حركة عسكرية لم تستند إلى مبررات منطقية وفق كل القياسات، وقراءة خاطئة للوضع المحلي. وعلى الدولة العراقية مراجعة المواقف وحذف ذلك اليوم من مفكرة المناسبات الوطنية. فأي مقارنة بسيطة تثبت أن الحكم الملكي كان مناسبا للعراقيين مقارنة بما تلاه حتى هذا اليوم. وسيحاسب التاريخ، وربما الشعب ومؤسساته إن تحققت كما ينبغي، مسيرة من لم يحاسب.

اتسمت فترة الحكم الجمهوري القاسمي بالتعفف، وبالعنف والفوضى السياسية والأمنية والسحل في الشوارع من جانب آخر. فقد غرق الحاكم وسط أمواج التصادم الحزبي، وعاقبه البعثيون بالسيطرة على الحكم. لكنهم لم يحسنوا التصرف كما ينبغي، بسبب النقص في الثقافة السياسية واضطراب الأوضاع وسحر العبارات الثورية.

وانقلب عبد السلام عارف على البعثيين بعد تسعة أشهر من تنصيبهم له رئيسا للجمهورية، ثم قادوا عملية تغيير «بيضاء» بالتآمر مع قائد الحرس الجمهوري والاستخبارات. وبعد وصولهم إلى الحكم منيت محاولات التآمر ضدهم بالفشل. ولم ترق كل المحاولات إلى مستوى التأثير الفعلي، فالبعثيون بطبيعتهم انقلابيون مولعون بنظريات المؤامرة، وهذا ليس عيبا في ثقافة الشرق.

الوصف الدقيق للانقلاب العسكري تنطبق عليه سيطرة القوات المسلحة التركية والباكستانية على الحكم لأكثر من مرة. فالأجهزة العسكرية والأمنية في هذين البلدين لها خصوصيات معنوية وتنفيذية تختلف عن أي دولة أخرى. وعندما تتحرك للسيطرة على الحكم، فإنها تتصرف كأنه حق دستوري. وبلا قتال ولا مقاومة ولا سفك دماء، تسيطر على الحكم وتقصي الحكام المدنيين.

أما الانقلاب العسكري الأخير في موريتانيا فيأخذ صفة التآمر بحركة قوة محدودة للسيطرة على الوضع، من دون الخصوصية التي يتمتع بها العسكريون في تركيا وباكستان. أي أن منفذيه كانوا معرضين للفشل والمحاسبة خلاف الحالتين التركية والباكستانية، وهنا يتزاوج سلوك المغامرة مع القراءات الدقيقة للوضع الأمني والسياسي.

وحيث يعتبر الانقلاب العسكري الشامل والتآمر من الأعمال المستنكرة، فإن التحرك العسكري المنظم يعتبر مشروعا في حالة اتخاذ نظام حكم ما قرارات خطيرة تعرض مصالح وأمن ومستقبل البلد لمخاطر مدمرة، وعدم وجود خيارات لإثنائه عن التصرف، وعجز الخيارات الديمقراطية عن إعادة تقويم الوضع.. وكذلك في حالة ممارسة الحكم سياسة قمع ضد الشعب أو شريحة منه، واتباعه سياسة طائفية، وفي حالة انتشار الفساد وعجز مؤسسات الدولة عن المعالجة اللازمة.

أما إذا اكتفت الأجهزة العسكرية والأمنية بتنفيذ سياسة قمع يفرضها السياسيون وفقا لأهدافهم الشخصية والحزبية، ولم تمارس قدراتها المتاحة لوقف التدهور والتهور والتمادي والفساد، فإنها تتحمل مسؤولية الشراكة بجريمة الفاعل الأصلي، وتتحول إلى خنادق معادية لمصالح البلاد التي يفترض دفاعها عنها. ولا يجوز للقادة العسكريين الركون إلى الظلم ووضع رؤوسهم في الرمال. ومن يقل إن قادة الجيش العراقي لم يفعلوا شيئا من هذا في زمن النظام السابق، فإنما يجافي الحقيقة بسبب نقص المعلومات، أو لأسباب فئوية. فقد قدم قادة الجيش وحزب البعث تضحيات أكثر من تضحيات قيادات أي جهة أخرى.

وفي هذه المرحلة، نسمع كثيرا عن احتمالات وقوع انقلاب عسكري في العراق. أما واقع الحال، فإن الأميركيين وحدهم قادرون على القيام بانقلاب بأدوات عراقية. وكل الآخرين بمن فيهم القائد العام سيمنون بفشل ذريع لو أقدموا على خطوة كهذه. فلا أحد يمتلك القدرة على إرضاء شرائح الشعب كافة ولا المكونات السياسية. وسيكون تمرد القوات في مناطقها خيارا واقعا لو أقدم أحد على فرض إرادة خاصة بالقوة المفرطة. وعندما تتاح الفرصة، فسأكتب عن محاولات التآمر العسكري على النظام السابق، تلبية للدعوة الكريمة للأستاذ غسان الإمام في مقاله السابق.