إلى «المواطن» المسيحي العربي

TT

الهجوم الدموي على كنيسة بغداد يفتح الباب على سؤال أكبر عن مصير «المواطنين» المسيحيين في دول الشرق الأوسط، عن مستقبل وجودهم المادي نفسه، كما أنه يفتح الجرح العربي والإسلامي على منبع الداء.

من المخجل أن تفرغ الأرض، التي درج فيها المسيح ودارت فيها قصصه ومواعظه وتجول فيها تلاميذه، من أتباع هذه الديانة.

بل من المخجل أن يعيش المسيحيون بلا خطر جدي يهدد حياتهم ووجودهم طيلة القرون الماضية، ثم تطرح الآن بشكل جدي مسألة خلو المشرق من مسيحييه!

محبط لإنسان هذه المنطقة أن يصدق كلام رجل الدين المسيحي، الأب سمير خليل سمير، وهو قس يسوعي مصري مقيم في بيروت، ساعد في وضع وثائق العمل التي عرضت على مؤتمر الأساقفة «السينودس» الفاتيكاني عن مسيحيي الشرق الأوسط الذي عُقد مؤخرا؛ حيث قال عن استمرار الوضع الذي أنتج «الأزمة» المسيحية في الشرق الأوسط: «إنه إذا استمرت هذه الظاهرة فسيختفي المسيحيون في الشرق الأوسط». وتابع: «إن نزوح المسيحيين من العراق منذ عام 2003 قد يؤدي إلى اختفائهم من هناك». حسب ما نشر في «رويترز» وغيرها.

ما جرى في كنيسة «سيدة النجاة» في بغداد ليس إلا فصلا من رواية دامية عن استهداف الوجود المسيحي في المنطقة على يد التعصب، قبل ذلك قتل مسيحيون وهوجمت كنائسهم في الموصل وغير الموصل.

وما جرى في العراق ليس، حصرا، بسبب تدهور الوضع الأمني، وانسداد الأفق السياسي، أو أن هذه الهجمات على المسيحيين بسبب التحريض الأميركي ووجود مخطط «خفي» للإيقاع بين العراقيين، كما يحلو دوما لبعض محترفي تضليل الأسئلة والانحراف بها عن وجهتها الحقيقية، فما جرى في العراق جرت فصول منه بشكل مختلف في مصر؛ حيث عاشت على إيقاع توتر طائفي وصلت أصداؤه هذه المرة إلى مستويات قيادية من رجال دين مسلمين ورجال دين مسيحيين أقباط، منذ المواجهات الحادة التي جرت في الإسكندرية، ومنذ أحداث الفتاتين القبطيتين اللتين قيل ما قيل عن إسلامهما واختفائهما وإجبارهما على الارتداد، حسب بيان تنظيم القاعدة الذي برر به عملية القتل والهجوم في كنيسة النجاة ببغداد، في ربط «خنفشاري» بين بغداد والقاهرة!

وما جرى في مصر جرى شيء منه في أماكن أخرى مثلما حدث من استهداف للقلة الباقية من يهود اليمن على يد بعض الأصوليين، الذين ربما لا يدركون القيمة التاريخية والحضارية الكبرى للحضور اليهودي الأقدم في بلادهم، أعني اليمن، وبذلك يشبه حالهم حال من يهدم مسلة نادرة من أجل بناء كشك سجائر!

لن نتحدث عن الأزمة الداخلية بين مكونات المسلمين (شيعة وسنة) فهذا حديث مركب ومثير للشجن هو الآخر، ولكن ماذا استجد حتى يصبح الوجود المسيحي في منطقة الشرق الأوسط بخطر للدرجة التي جعلت أهم مؤسسة في العالم المسيحي «الفاتيكان» تعقد مؤتمرا خاصا بـ«المسألة»؟

للحق، كما علق المفكر اللبناني رضوان السيد في مقالة سابقة له بهذه الجريدة عن مؤتمر الفاتيكان، أن الأزمة ليست محصورة بتنامي الخطاب الأصولي الإسلامي المتطرف، فهناك أزمة أخرى يتعرض لها المسيحي العربي بوصفه مواطنا، وهي أزمة ضعف بعض الحكومات العربية وسوء الوضع الاقتصادي، وإلا فما تفسير أن يهاجر أسراب من المسيحيين اللبنانيين، وغيرهم، للعمل في دبي وقطر والسعودية والكويت، وهي دول عربية سنية، بل سلفية في وجوه منها؟! لو كانت أسباب الهجرة والتسرب المسيحي هي فقط انحسار مساحة العلمانية والتسامح المدني لصالح الأصولية، لكانت الوجهة فقط إلى البلدان المسيحية؛ حيث لا يشعر المسيحي بالاغتراب مع أبناء ملته (أسباب الغربة عدة، ومنها غربة اللسان والعادات).

على الرغم من أنه صحيح أن هجرة المواطن المسيحي العربي، في جانب منها، مثل هجرة المواطن العربي المسلم، للبحث عن فرص عمل وحياة أفضل، فإن هذا العامل لا يلغي «الخصوصية» التي تسم الهجرة المسيحية العربية بشكل خاص.

هناك حالة «افتراس» للذات في المجتمعات العربية، وبحث عن ضحية تصل عليها لعنات الإخفاق والتردي العام، ودوما تكون الأقليات لدى الوعي الأصولي أو الشوفيني القومي، هي مصب اللعنات، وتسند إليها أسباب «تلوث» الأمة، رأينا ذلك في الحالة النازية الألمانية مع اليهود والغجر، ومع خطاب اليمين الأوروبي الآن مع الأقليات المسلمة لديه...

التفكير أن هناك هويات قومية نقية ومغلقة على ذاتها وتنطوي على كمالاتها الخاصة والثابتة هو نوع من التفكير الساذج، ولكن الخطير في الوقت نفسه أنه يداعب غرائز جماعية عامة تبحث عن شيطان ترميه بحجارة أمراضها وعللها.

لم يكن هذا حال المسيحيين في السابق؛ ففي ثورة 1919 المصرية كان القبطي بجوار المسلم، ورموز المفكرين المسيحيين هم من أسس التيار القومي العربي، وكم هو معبر أن يكون المسيحي اللبناني أمين الريحاني داعما وصديقا للملك العربي «السلفي» عبد العزيز.

لا يعني هذا الكلام أنه لم تكن هناك «فتن» طائفية في السابق بين المسيحيين والمسلمين، فأي قراءة دقيقة تطلعنا على الكثير من محطات هذه الفتن، حتى في الحالة المصرية نفسها التي كان حزب الوفد فيها نموذجا لامعا للوحدة بين الهلال والصليب، ولكن كان الوعي العام يتطور باتجاه تقديم «الهوية الجامعة» على المحدد الديني.

وكما يخبرنا المفكر اللبناني ألبير منصور في كتابه (قدر المسيحيين العرب وخيارهم)، فإن سبل الاندماج والتماهي التي سلكها العقل المسيحي العربي منذ فجر النهضة العربية تعددت؛ فقد كان هناك «السبيل الإنساني» الجامع، من خلال سلوك درب العقلانية العلمانية الليبرالية، كما هو الحال مع فرح أنطون، أو سلوك درب العلمية المادية، كما هو الحال مع شبلي شميل، أو درب الانتماء الثقافي القومي العام، كما هو الحال مع آل اليازجي والبساتنة.

وكان هناك «السبيل القومي» من خلال فكرة الأمة السورية الجامعة، التي كان أنطون سعادة هو مفكرها وراهبها، وانخرط في حركته وفكرته كثير من مثقفي وناشطي بلاد الهلال الخصيب. وكان هناك في السبيل القومي فكرة «الأمة العربية» الكبرى وأبرز ممثلي ومنظري هذه الفكرة والهوية ميشيل عفلق، عراب حزب البعث العربي. وكانت هناك فكرة الأمة اللبنانية من خلال مفكرين أمثال ميشيل جحا وغيره. كما كان هناك سبيل الدولة الأمة مثل فكرة الأمة المصرية. وطبعا كان هناك سبيل التيارات العالمية الجامعة مثل الأحزاب الماركسية.

كانت هذه الأفكار، وما زال بعضها، عناوين كبرى للهوية السياسية، انتظم فيها كثير من مثقفي المجتمعات العربية تحت عناوين غير دينية ولا طائفية.

تقويم هذه الأفكار والتجارب، بحث آخر، إلا أنها كانت فعالة ونشطة على مستوى القواعد الشعبية والشارع، ويجمع بينها كلها اختراق الحاجز الطائفي.

ماذا جرى الآن؟ وهل استهداف المسيحيين هو جزء من أزمة استهداف الاعتدال الإسلامي نفسه، داخل المسلمين، أو فكرة الأمة العربية، إن كانت لا تزال باقية، حسبما يحذر كمال صليبي ويطالب ببقائها كضمانة وجود للمسيحيين والعرب أنفسهم؛ حيث إن العرب إذا خلوا من الوجود المسيحي صاروا بالتعريف أمة إسلامية لا عربية، كما هي ملاحظته النافذة؟

المسيحيون جزء أساسي من هذه المنطقة، المسيح نفسه هو ابن فلسطين وتعمد بنهر الأردن. ومن الأفضل أن يتنادى العرب أنفسهم لحماية كل الأقليات الوطنية، أولاها المسيحيون، ففي التعدد حصانة من التخلف والتعصب.

المطلوب، كما قال رئيس أساقفة الموصل المطران جرجس موسى وهو يتحدث عن استعداد حكومة بغداد لترميم الكنيسة المهاجمة: «حاجتنا ليست إلى ترميم الكنيسة بقدر ما هي إلى ترميم الضمائر»!

[email protected]