مذكرات يكتبها سياسيون.. وأخرى نأمل كتابتها

TT

في فترة اختمار التجربة، وفي حالة من الهدوء والسكينة يصنعهما الأديب والفنان والسياسي العربي لنفسه، حين يعجز عن عيشها في هذا الواقع العربي المحتقن والضاج بالحروب والأزمات، يبصر الأديب والفنان حوله في حالة من الوعي بالذات، فيجد ذاته سليلة مسار أدبي وفني حافل ومثمر، وصانع تجارب وأفكار شذبها الزمن وعلمها حكمة الأيام، يبدو خسارة أن تذهب أدراج الرياح، دون أن تسقي عطش الشباب المفتقد للأمثولة واستخلاص العبر، في زمن غدا فيه المغني ولاعب الكرة هما قدوتا هذا الزمن الاستهلاكي، فيقرر فجأة الإبحار في المفرح والمحزن والمحرم والمحرج، يبحث عن ذاته بالعودة إلى ماضيه، يستقطر ذاكرته فيدونها ويعيد لها دفء الحياة، يخشى أن تشوه سيرته بعد موته، وإن كان سيكتب ذاته تحت سماء ملبدة بغيوم التابوهات والإجهاد والتحسب والحذر والتحفظ وفي عالم عربي يفتقد للكثير من الحرية والديمقراطية.

أما السياسي أو الدبلوماسي والعسكري العربي فينظر حوله، فهو ما زال متوقد البصر والبصيرة، لم يغادر منصبه السياسي على نقالة المرض أو الموت، يجد ذاته باهتة في حاجة إلى الكثير من التلميع في عالم يضج بـ«المغالطات» و«المزايدات» و«التلفيق» على حد زعمه، يقف لحظة كي يبصر وجهه في المرآة، وجهه آيل للنسيان، يعود إلى الماضي، فيجده ضاجا ومليئا بالحياة وبكثير من التجارب والخبرات والرحلات والسطوة، وبكل صولاته وجولاته، يخشى على ترسانة مواقف سياسية راكمها عبر الزمن، وشهادات قريبة من الأحداث السياسية أن تضيع دون أن تجد من يتلقفها ويصونها في بيت التاريخ ويحميها من التشويه، يريد أحيانا أن يستكمل خصوماته على الورق، وتصفية حسابات مؤجلة، وأحيانا أخرى يحلم بأن يصير نجما مضيئا في سماء التاريخ، يقرر فجأة أن يعتزل العالم من حوله، يقف أمام البياض حائرا بين الصدق أو الكذب وبين الذاتية أو الموضوعية، يقرر أحيانا أن يكتب بنفسه وقد يستعين بكتاب مستأجرين أحيانا أخرى.

فكتابة السير الذاتية جنس أدبي غربي بدأ تحديدا مع القديس «سانت أوغسطين» الذي تحدّث فيها عن تأثير الدين في حياته الخاصة، ومن ثمّ تطوّرت وتبلورت كفن أدبي قائم بذاته مع جان جاك روسو الذي يعتبر أهمّ مَنْ كتب السيرة الذاتية عبر كتابه الشهير «اعترافات»، وقد استهلّه بجملة صارخة قال فيها: «أنا أفعل شيئا لم يفعله شخص قبلي ولن يقدر شخص بعدي على تقليده». وبعد أن ظلّت «السيرة الذاتية» حكرا على الأدباء والفلاسفة تلقفها بعد ذلك السياسيون والملوك والرؤساء.

ولن أخوض في سير الأدباء، فهناك إجماع على رقيها وجمعها بين البذخ البلاغي والسرد الطليق بفضل حنكة كتابها وامتلاكهم لناصية الأدب ولتقنيات جمالية وفنية ترقى بأعمالهم إلى مصاف الأعمال الأدبية الراقية إلا فيما ندر.

وتعد كتابة المذكرات جزءا مجاورا للسيرة الذاتية «genre avoisinant»، وقد تطورت بشكل كبير بين أدباء وساسة الغرب، لتوفر مناخ الحرية الملائم للكتابة، حيث يعد كتاب «مذكرات شخصية» للرئيس الأميركي يوليسيس غرانت من أهم الكتابات الذاتية السياسية في تاريخ أميركا، تليه مذكرات تشرشل، وديغول، ونيكسون الذي تحدث في كتابه عن فضيحة «ووتر جيت» بكثير من المرارة، وبكونه كان ضحية مؤامرة سياسية، كما أصدر وزير التجارة الأميركي السابق باتريك أوينل مؤخرا مذكراته، وهو أوّل وزير في إدارة الرئيس بوش يكتب مذكراته، وفيها فضح الوعد الذي أطلقه بوش بالقضاء على الرئيس العراقي صدام حسين لكونه حاول اغتيال والده جورج بوش. أما عن «حياتي» المذكرات التي نشرها الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، والتي جمعت بين مساره الشخصي والسياسي، فهي بنفس عنوان سيرة أحمد أمين «حياتي» ولكنها ليست بنفس القيمة الأدبية والجمالية، وهناك إجماع على أنها لم تكن بالمستوى المطلوب، لكون بيل كلينتون كتبها بنفسه، ولم تشبع رغبة القراء في معرفة حقيقة تفاصيل علاقته الغرامية مع مونيكا لوينسكي، أما مذكرات الرئيس الأميركي السابق جورج بوش المعنونة بـ«ديسيجن بوينتس»، فمن المتوقع أن تطرح في الأسواق الأميركية والكندية في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، وفيها يتطرق لماضيه عندما كان مدمنا على الكحول ولاعتداءات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) والاجتياح الأميركي للعراق.. كما تمحور كتاب «الرحلة» لتوني بلير حول حياته السياسية بعد تقلده منصب رئيس الوزراء مبررا حربه في العراق بالدرجة الأولى.

وكيفما كانت أهداف ومرامي هاته المذكرات الصادرة بالغرب، فلا يمكن اعتمادها كمراجع تاريخية موثوق بها وكشهادات على عصرها، لكونها تفتقد لخبرة كاتب متمرس وأكاديمية باحث محايد، واقترابها أكثر من التعليب وتبرير المواقف وتمجيد الأنا والتشويق والدعائية والبحث عن الأرباح الطائلة بالدرجة الأولى، اللهم بعض الاستثناءات كمذكرات غاندي وديغول وتشرشل.

في المغرب، تبقى كتابة المذكرات السياسية والشخصية عند رجال السياسة قليلة وحديثة العهد بالمقارنة مع الغرب، ويعد كتاب «نصف قرن تحت مجهر السياسية» للكاتب والسياسي والمفكر الراحل عبد الهادي بوطالب، من أبرز المذكرات السياسية في تاريخ المغرب، وهو عبارة عن حوار أجراه معه الصحافي المغربي حاتم البطيوي، مزج فيه بين مواقف شخصية وشهادات عن مراحل من تاريخ المغرب منذ النضال الوطني إلى المغرب الحديث، وهو في شهاداته عن المطالبة باستقلال المغرب وصراعات الأحزاب وحرب الرمال بين المغرب والجزائر واختطاف المهدي بن بركة وتمرد اوفقير... ظل «يتحرى الاحتياط والتحرز في السرد والاستنباط كي لا يقع في فخاخ التأويل والتقويل»، كما يقول محمد سبيلا مقدم الكتاب، فالكتاب لم يسقط في فخ الهرولة والأحكام الجاهزة بل جمع بين رصانة الأكاديمي الباحث وعمق السياسي المحنك وتأملات مفكر من العيار الثقيل.

أما كتاب «المغرب والعالم العربي» لصاحبه الراحل عبد اللطيف الفيلالي، الذي تقلد على مدى خمسة عقود عدة مناصب دبلوماسية وحكومية، قبل أن يعين وزيرا أول في عهد ملك المغرب الراحل الحسن الثاني، فيستعرض محطات هامة من التاريخ السياسي المغربي ويقدم مواقفه بخصوص كثير من القضايا كحرب الريف، والأخطاء الفادحة في المفاوضات مع فرنسا وإسبانيا بشأن استقلال المغرب، فضلا عن سياسة الملك الحسن الثاني العربية والدولية، وطريقة التفاوض مع إسبانيا لنيل استقلال شمال المغرب، مفاوضات لم تثر قضية سبتة ومليلية في رأيه، أخطاء ذكرها في كتابه، كان من الممكن تداركها وهو في منصبه السياسي سابقا، لكن الوزير الراحل فطن إليها في فترة هدوء نفسي وهو مقيم في فرنسا لكتابة هاته المذكرات، بعيدا عن بلده قريبا من ذاكرته. أما المحجوبي أحرضان الوجه السياسي المغربي اللامع والفنان الذي تقلد وظائف حكومية وارتبط اسمه بحزب الحركة الشعبية، فكتب مذكراته بالأمازيغية وعنوانها «كيفما أرادت» تناول فيها المسار السياسي والشخصي والمسؤوليات التي تقلدها في عهد الملك الراحل الحسن الثاني. كما أعلن الوزير الأول المغربي السابق إدريس جطو عن قرب صدور مذكراته التي تلامس كل مسارات الحياة الشخصية والمهنية والسياسية والحكومية، مؤثرا تقريب المواطن المغربي والعربي ومحيطه العائلي من الأحداث والمحطات التي عاشها الوزير الأول في مشوار حياته.

أما مذكرات السياسي المغربي محمد بن سعيد آيت ايدر عن جيش التحرير، بعنوان «صفحات من ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي»، التي قدم لها عبد الله إبراهيم (رئيس حكومة سابق). فقد تناولت المقاومة المغربية التي خاضها جيش التحرير في الجنوب المغربي ضد الاحتلالين الفرنسي والإسباني.

فرغم أهمية هاته المذكرات، تبقى قليلة بالمقارنة مع تاريخ المغرب ورجالاته وحضارته ودوره الفاعل في كثير من القضايا العربية والدولية، فكتابة المذكرات السياسية أمر صحي، ومؤشر إيجابي لسياسة الانفتاح والديمقراطية والحرية، وهناك شخصيات سياسية مهمة ما زلنا نأمل أن نقرأ مذكراتها، كالمناضل السياسي والزعيم الاتحادي الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، ويعتبر من الوزراء الأساسيين الذين بصموا الحياة السياسية الحديثة بالمغرب، كما أن حياته السياسية طافحة بالكثير من الأحداث والتجارب المؤثرة، كالاعتقال والسجن والمنفى..

أما الوزير الذي نأمل حقا أن نقرأ مذكراته مستقبلا، فهو الأستاذ محمد بن عيسى الذي شغل منصب وزير الثقافة وسفير المغرب لدى واشنطن ووزير خارجية المغرب السابق، فهو بالإضافة إلى ذاكرته وتجاربه السياسية الثرية والمنفتحة على العالم، له ذاكرة ثقافية وفنية ثرية، يتوجها مشروعه الثقافي والفني الكبير «موسم أصيلة الثقافي الدولي»، الذي استمر بدأب على مدى أزيد من ثلاثة عقود دون توقف منذ عام 1978، وحبذا لو أشرعت ذاكرته أبوابها للجميع، كي تكون قبلة لكل عاشق للفن ولكل متعطش للثقافة والمعرفة، وأنا متيقنة أن هاتين الشخصيتين إن فكرتا يوما في كتابة مذكراتهما، فلن تكون غايتهما من وراء ذلك تلميع ذاتيهما، فذاكرتهما السياسية والثقافية كفيلة بجعلهما نجوما مضيئة في سماء التاريخ والإنسانية.

والإنسان كلما ازداد قربا من الشيء، صعبت الرؤية وضاقت العبارة، وكلما اقترب من ذاته استعصت المهمة، وعبارة «اعرف نفسك بنفسك» لسقراط تضع الإنسان الذي يكتب ذاته في موقف صعب وحرج، فيحتار هل يجب أن يكون عادلا أو مغاليا أو منتقصا في تقييم ذاته وتقييم الأوضاع من حوله؟ لهذا من الأفضل أن يغسل يديه لحمل القلم قبل أن ينظفها للأكل، وأن يتهيب أكثر ويتجنب تضخيم الأنا ويلتزم التحسب والتحفظ حتى لا يسقط في فخاخ التأويل والتقويل، فمهمة السياسي تبدو أصعب من مهمة الأديب، فالأديب يستطيع بخبرته الأدبية وبأسلوب أدبي يجمع بين الأناقة واللياقة والمراوغة والـتأنق إن اقتضى الحال، كتابة الأنا وتجنب عري الذات بشكل فاضح، لكن السياسي وهو المعاصر لأحداث سياسية وشاهد على عصر أو ربما عصور كما هو شأن المفكر المغربي عبد الهادي بوطالب الذي عاصر ثلاثة ملوك مغاربة، لن تسعفه لغته ولن يسامحه التاريخ إن شوه أو راوغ أو موه أو تجاوز أحداثا هي في ملك الشعب والتاريخ، وهو ليس سوى شاهد عليها أو مساهم في صنعها، ولا مجال لتلميع الذات واستعراض الأحقاد وتصفية الحسابات ولا استسهال القارئ أو المواطن أو التنقيص من قدرته على الفهم والحكم والتقييم.

* كاتبة من المغرب