أسطورة العزوف عن المشاركة السياسية!

TT

تعني الأسطورة مزيجا من الواقع والخيال دون قدرة على التمييز بينهما وذلك بسبب التشابك الكيميائي فيها. إلا أن الأسطورة التي سنحاول تفكيكها في هذه المقالة، الوهمي فيها أكثر هيمنة وغطرسة مقارنة بجغرافية الواقعي.

فمن الأساطير الرائجة في العشرية الأخيرة، أن الشعوب العربية تعاني من عزوف عن المشاركة السياسية في بلدانها. ونجد هذه الأسطورة تتكرر في الخطاب السياسي الرسمي العربي، وكأنها مسلمة من المسلمات التي لا يشوبها شك، ويقين لا ترتقي إليه الظنون.

بيد أن الأسطورة بدءا من الألف وصولا إلى الياء هي عبارة عن كمية من الأوهام المتجانسة تؤدي وظيفة التسويق السياسي للمغالطات المكشوفة.

أولا: من الصعب أن نتحدث عن ظاهرة عزوف عن المشاركة السياسية والحال أن شروط المشاركة السياسية في البلدان العربية تكاد تكون منعدمة وفي حالات قليلة جدا متواضعة ولا تشبع التوقعات.

ويكفي في هذا الصدد أن نقيس واقع الحريات في البلدان العربية حتى نحسم في أمر توفر المشاركة السياسية أو انعدامها.

من جهة أخرى المشاركة تقتضي التنوع والاختلاف ولا مجال لتجسيدها ولو في شكل مسرحي إلا بوجود أطراف مختلفة فكريا وسياسيا باعتبار أن المشاركة تتحقق مع الغير المختلف ولا تكون مع المماثل.

ولعل واقع أحزاب المعارضة وأداءها والهامش المتوفر لها في المشاهد السياسية العربية وحتى ما تمكنت من افتكاكه كثمرة نضالات متواترة كفيل بما فيه الكفاية بتحديد مدى مصداقية الحديث أو الأصح التشدق بوجود المشاركة السياسية التي تتقلص إلى حد الاضمحلال كلما ارتفعت نبرة «دولنة» كل شيء وأخضعته للمراقبة وللتحرش بأكثر التعبيرات الاجتماعية والسياسية احتجاجا.

إذن في صورة التشكيك في وجود الاختلاف السياسي والفكري الذي هو الميكانيزم الأساسي وقلب الرحى بالنسبة إلى فعل المشاركة وصيرورته يصبح من المغالطات الزعم بوجود عزوف عن المشاركة السياسية. فالفرد والمجموعات والمجتمعات لا يعزفون عن شيء هو بالأساس غير موجود أصلا. وبالتالي فإن الأسطورة التي يمكن أن تحظى بحظوظ وافرة في القبول تتمثل القول إن النخب السياسية العربية الحاكمة هي التي تعاني من عزوف عن توفير شروط المشاركة السياسية والتأسيس لها في واقع الممارسة الاجتماعية للسياسة وللاختلاف الفكري والسياسي معا.

وطبعا هناك فرق شاسع وعميق بين ما يروج سياسيا من أساطير تزرع الأوهام وبين معطيات الواقع وإيقاعه والقيم المتحكمة في حراكه اتجاها ونبضا وفكرة. فالعلاقة بين ما يتم تداوله وحقيقة الأمور قائمة على طرفي نقيض.

ومن باب الموضوعية، من المهم الإشارة إلى أن هذا التشخيص المتشائم يلقى في قلة قليلة جدا من البلدان العربية ما يلطفه ويخضعه بقوة المنجز إلى تنسيب هو بدوره يتميز بالنسبية. ولكن في نفس الوقت من الصعب تفنيده «أي التشخيص المتشائم» على مستوى واقع الممارسة السياسية التي تستند إلى مشاركة شكلية تزيد الطين بلة وتجعلنا نعترف دون استعداد منا لذلك بأن الدكتاتورية غير المقنعة أفضل ألف مرة من مسرحية المشاركة السياسية ذات النص الوهمي.

من هدا المنطلق وإغماضا للعين المتشائمة وتحييدها، من المفيد العمل على توفير الظروف المنتجة لحراك فكري وثقافي وسياسي يسمح بالتنوع والاختلاف فعلا وتعبيرا وحضورا. وكلما ارتفع سقف الاختلاف بعيدا عن سيف مقولة «ما هو مسموح به» كلما تحسسنا المشاركة السياسية ماديا وواقعيا وهي تنمو متجاوزة طورها الجنيني إلى طور تصبح فيه قائمة الفعل والتأثير.