الوجه الآخر للديمقراطية

TT

نتطلع جميعا لتأسيس نظام ديمقراطي في العراق، والنظام الديمقراطي يحتاج لمقومات أهمها بالتأكيد القناعات الشعبية بأن الديمقراطية هي خيار لا بديل عنه، والشعب العراقي تولدت لديه هذه القناعات وأدى دوره ومهمته على أكمل وجه في كافة الممارسات الديمقراطية التي شهدها العراق منذ زوال النظام الديكتاتوري، وهذا الشعب لم يؤد دوره بشكل تقليدي بل في أحيان كثيرة وأماكن كثيرة كان يتحدى قوى الشر والظلام من أجل أن يشارك ويسهم في البناء الديمقراطي الحضاري، أي إنه كان متميزا في دوره في ترسيخ الديمقراطية كمنجز حضاري، وشهدنا جميعا بأن الانتخابات البرلمانية الأخيرة في مارس (آذار) الماضي كانت متميزة من حيث ارتفاع نسبة التصويت رغم التحديات الأمنية التي تمثلت بقصف بعض أحياء بغداد بالهاونات ولكن هذه العمليات الإرهابية لم تثن أبناء شعبنا عن أداء دورهم في هذه الانتخابات، وبالمقابل كانت هنالك قوائم عديدة مشاركة في الانتخابات سواء أكانت أحزابا مؤتلفة أو كيانات مستقلة تنافست من أجل الحصول على ثقة الشعب وتمثيله بالشكل السليم والصحيح في البرلمان العراقي كأعلى سلطة تشريعية في البلد، ومن هذا البرلمان تنبثق السلطة التنفيذية التي يتنافس عليها الجميع، متناسين أن العملية الديمقراطية في أي بلد من بلدان العالم لها مخرجات ديمقراطية أهمها بالتأكيد معادلة الحكومة والمعارضة، والبعض يسميها الأغلبية والأقلية، والمقصود بها هنا الأغلبية والأقلية السياسية وليست العرقية أو المذهبية. والمصطلحات الأخيرة دخلت قاموس مفرداتنا المتداولة لكي تشوه صورة الديمقراطية وتعيق بناءها بالشكل المتعارف عليه عالميا. والمعارضة تلعب دورا كبيرا في النهوض بالعملية السياسية من جهة ومن جهة أخرى حمايتها من الشطط من خلال المتابعة المتواصلة وفقا لآلية عمل المؤسسات الدستورية التي ستؤدي أعمالها بحرية تامة كما ينبغي وتمارس دورها في تقويم وتنظيم الحراك السياسي لتجعله على السكة الصحيحة على نحو متواصل وهذا ما افتقدناه في الحكومة المنتهية ولايتها والتي عجزت عن تقديم أدنى الخدمات للمواطنين تحت ذرائع شتى منها الإرهاب تارة و(المحاصصة) تارة أخرى. وبالنتيجة نجد أن الشعب حيث أراد أن يعبر عن رفضه لتدني الخدمات لم يجد من يستند إليه من القوى السياسية فتصرف وفق ما شهدناه في البصرة والناصرية وغيرها من المحافظات العراقية. وهذه الحالة (أي غياب المعارضة) نتحسس وجودها في الحكومة القادمة التي يحاول الجميع أن يكون جزءا منها، وبالتالي سنفتقد للمعارضة التي تحمي الديمقراطية وتشخص الخلل، لأن غياب المعارضة يعني فيما يعنيه فقدان أحد طرفي معادلة الديمقراطية حيث تكون مخرجاتها هذه المرة حكومة فقط. ومن جهة ثانية فإن غياب قوى معارضة هو تخلف سياسي مرفوض وخشية من السقوط والطرد الحتمي من كرسي الحكم وما يتبعه من فوائد ومصالح متعددة، وهو أمر تنبذه التجارب الديمقراطية الناجحة، وقد يقول البعض بأننا في العراق ما زلنا في بداية طريق الديمقراطية ولكن هذا لا يعني أننا لا نتعلم الخطوات الصحيحة ونتبع خطوات أخرى قد تبعدنا عن مسارات الديمقراطية الحقيقية لأن وجود المعارضة السياسية ودعمها ورعايتها من صفات وركائز الأمم المتطورة، فهي تبحث بصورة مؤسساتية دستورية متواصلة عن كيفية صنع أصوات وعيون معارضة تقف بالمرصاد للنظام السياسي كأفراد أو كمؤسسات وتراقب أنشطتها كافة وتمحص قراراتها بدقة العارف المصيب وتؤشر الزلل وتطرح رؤى التصحيح ومنافذ الحلول، والمعارضة تشكل ملمحا مهما من ملامح النظام السياسي القائم في هذا البلد أو ذاك، وهي بالنتيجة تعطي صورة دقيقة على درجة تطور التجربة السياسية أو ضمورها. وبالتالي فإنه ممكن أن تتحدد شرعية النظام السياسي القائم وفقا لقوة المعارضة أو ضعفها،

وكذلك فإن المعارضة بطبيعة وجودها يعني رفض الأحادية والإجماع والشمولية والشخصنة واختزال القرارات في أشخاص بعينهم دون سواهم، لذا نجد أننا بحاجة لقوى سياسية فعالة لأن تأخذ زمام مسك الطرف الثاني من المعادلة وهو طرف المعارضة من أجل إيجاد توازن برلماني يراقب الجهة التنفيذية ويصحح مساراتها وفق إرادة الشعب العراقي الذي يتطلع لبرلمان جديد وحكومة جديدة بعيدة كل البعد عن المحاصصة ومسمياتها الجديدة، خاصة أن هنالك الكثير من مشاريع القوانين المهمة التي يجب أن تنجز في المرحلة القادمة وهذه القوانين يجب أن تكون بعيدة كل البعد عن الصفقات والتوافقات وعلينا أن نعي بأن المعارضة هي الوجه الآخر للديمقراطية الذي لا نراه لأنه غير موجود في قواميس الديمقراطية العراقية ولا نريده أن يبقى غائبا.

* كاتب عراقي