ابن السعودية

TT

فقدت المملكة العربية السعودية ابنا بارا، ورجلا من رجال الدولة، ووزيرا سابقا للإعلام، رجلا له بصمات عدة، هو الدكتور محمد عبده يماني. كان وزارة إعلام بحد ذاته.. تجده في الفكر الإسلامي، والأدب، والصحافة، والعمل الاجتماعي والخيري، وتجده في الرياضة والفن النبيل. كان رحمه الله يحظى بتقدير شرائح المجتمع كافة، يناديه محبوه بـ«ابن مكة»، وعندما تعرفت عليه كنت أقول: بل هو «ابن السعودية» كلها، بحسه الوطني، وحبه لبلاده.

تعمقت معرفتي، ومحبتي، للراحل بعدما أصبح رئيسا لمجلس أمناء «الشركة السعودية للأبحاث والنشر»، التي تتبعها صحيفة «الشرق الأوسط»، وهو المجلس الأول من نوعه في الصحافة العربية، ومهمته دعم الاستقلالية والمهنية، ضمن الخط الذي انتهجته المجموعة للفصل بين الملكية والإدارة والتحرير. بعد رئاسته لمجلس الأمناء أرسل المرحوم مقالا للصحيفة، واعتذرت عن عدم نشره. التقيته بعدها في مناسبة بجدة فقال: «أهلا بمن يمنع مقالاتي»، شعرت بالحرج، نظرا لقدر الرجل وسنه، فتبسم قائلا: «أبدا يا ابني.. أنت تفصل ونحن نلبس»!

كانت هذه أخلاقه وسجاياه، وكثيرا ما كان يبادر بالاتصال مهنئا في حال قرأ أمرا أعجبه في الصحيفة. هاتفني ذات يوم قائلا: «أبلغ زملاءك تحياتي على تدشين طبعة قطر، هذا هو العمل المثالي فـ(الشرق الأوسط) لكل أهل الشرق الأوسط».

لمساته لا تنتهي، وجماليتها أنها تأتي بتواضع، وسرعة بديهة مغلفة بدعابة، وبلهجة مكاوية جميلة.. ففي مطلع شهر رمضان المنصرم هاتفني وأنا في جدة، وكنت متوقفا عن كتابة مقالي، فقال «خير يا ولدي لماذا لا تكتب»؟ قلت له مازحا: «الشياطين تصفد في رمضان يا معالي الدكتور».. فرد سريعا: «والله لا أدري.. في مكة يقولون: ما كل شيطان يقرأ عليه (بسم الله)». لم أتمالك نفسي من الضحك، وقلت له إنني أفضل أن آخذ شهر إجازة عن الكتابة كل عام، فقال: «المهم أحببت أن أطمئن، فأنت تعلم أن لي خبرة بسيطة جدا بالإعلام، بحكم أنني وزير إعلام سابق، وأعرف خبايا الإعلام، وبلاويه».

ومن القصص الجميلة عن الراحل، ما سمعته من الفنان القدير، والعزيز، أبو بكر سالم، وتحديدا عن قصة أغنيته الوطنية الشهيرة «يا بلادي واصلي»، حيث يقول أبو بكر إن الدكتور محمد عبده يماني هاتفه يوم كان وزيرا للإعلام، وكانت السعودية تستعد وقتها لمؤتمر القمة الإسلامي، وقال الراحل لأبو بكر: «أين أغانيك الوطنية المميزة؟ نريد أغنية تعكس تقدم هذا البلد، لكن أمامك أقل من يومين!». والدكتور يماني، وبحسه الإعلامي، كان يدرك أن للكلمة الوطنية المغناة أثرا، كيف لا والشعر لسان العرب؟

أسقط في يد أبو أصيل، وأخذ أول رحلة للقاهرة. ويقول أبو بكر أثناء لحظات الإقلاع من الرياض، وبينما الطائرة ترتفع صوب السماء، كنت أدندن للطائرة «الله معاك.. واصلي»، وحينها لمعت فكرة النص، ومن وحي حديث الوزير، فتخيلت الطائرة الوطن، وكتب يومها أبو أصيل رائعته «يا بلادي واصلي والله معاك.. واصلي واحنا وراك.. واصلي والله يحميك.. إله العالمين».

رحم الله محمد عبده يماني، صاحب النبل، والكلمة الطيبة، وأسكنه فسيح جناته، اللهم آمين.

[email protected]